ما زال نفر من المعاصرين - من أتباع أئمة
صغار أطلقوا اللحى وادعوا العلم بالشريعة - يدفعون المجتمع إلى سيطرة جماعة خصوا أنفسهم
باسم "الإخوان المسلمين" - وكأن باقي العباد المؤمنين الوسطيين لأكثر من
14 قرنا، الذين اتبعوا قول الله تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" - كأنهم كفارا غير مسلمين! لقد أتم الله نعمته علينا وأعطانا ديناً سمحا وسطيا كاملاً
متكاملاً، أعطى للإنسان حرية الفكر واختيار العقيدة، ديناً لا يُكره المسلم على
أداء شعائره، خص به الله ذاته - بغير شريك - بحساب كل إنسان من عباده، وقال في
كتابه الحكيم:
”وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” [الكهف]
"لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ." [البقرة]
"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ
الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ" [الغاشية]
"فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى" [الأعلى]
"فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" [الذاريات]
كما أمر صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأن يبحثوا عن الحقيقة في
ضمائرهم - وليس في اجتهادات الآخرين - بقوله في حديث صحيح، رواه أحمد
والدارميُّ عن وابصةَ الأسديِّ: "اسْتَفْتِ قَلْبَك واسْتَفْتِ نَفْسَك، اسْتَفْتِ قَلْبَك
واسْتَفْتِ نَفْسَك، اسْتَفْتِ قَلْبَك واسْتَفْتِ نَفْسَك؛ البِرّ ما اطْمَأنَّت
إليه النَّفْس والإثْم ما حاك في النَّفْس وترَدَّد في الصَدْر، وإن أَفْتاك الناس
وأَفْتوك."
ومع ذلك فإننا نرى بيننا اليوم جماعة سياسية من أتباع أئمة صغار ممن
يحتكرون الحكمة ويعتقدون أنهم وحدهم يفهمون كلام الله ورسوله، وأن عليهم واجبا
دينيا بفرض فهمهم هم لكلام الله وتصورهم لشريعته على جميع المؤمنين، وحتى على
الناس من أتباع الديانات الأخرى، - وأن عليهم في سبيل ذلك "امتلاك الأرض وفرض
الرأي". هذا الفهم المستورد المغرض الذي يسيس الدين ويضفي عليه الصفة الجمعية
ويولي البعض على الكل، ليس من الإسلام في شيء. فليس لجماعة من المسلمين أن تكره
مسلما - أو غير مسلم - على ما لا يقبله قلبه وتطمئن إليه نفسه أو يخل بخصوصية
علاقة العبد بربه ومسئوليته الحصرية يوم الحساب عن أعماله، فالله سبحانه يحاسب
العبد ولا يحاسب الجماعة، أو كما قال تعالى:
"وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ
كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا” [الإسراء]
"بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) [لقيامة]
”فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" [الزلزلة]
ولكن هؤلاء يأخذون لأنفسهم حق تطبيق شرع الله كما يفهمونه هم - لا
بل الحساب والعقاب وفرض الرأي بالقوة في أكثرهم اعتدالا والتكفير وإهدار الدم في
أكثرهم غلوا - ويُقَوِّلون الله ما لم يقله، فيضعون المسلمين في مواجهة افتراضية مصطنعة مع الله بينما هم - فيما يذهبون إليه
- على النقيض من شرع الله، وهم يكادون أن يكونوا من نزلت فيهم الآية: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا
يَشْعُرُونَ(12)" [البقرة]، الذين قال عنهم
الصحابي سلمان الفارسي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يجئ أهل هذه الآية بعد." فهل جاء أخيرا زمن أهل الآية الكريمة؟!
دكتور مدحت بكري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق