الأحد، 29 مارس 2015

العاصمة الجديدة... الدراسة والفرص البديلة في ترتيب أولويات المشروعات الوطنية الكبرى

دكتور مدحت بكري | مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا | القاهرة في 26 مارس 2015 | http://medhatbakri.blogspot.com/2015/03/blog-post.html
لا يختلف أحد في أن آلية اتخاذ القرار في مرحلة ما قبل الثورة وقيام دولة الثالث من يوليو قد اتسمت بالمزاجية والانفرادية والعنترية وفرض الرأي بغير مصوغ من العلم والدراسة السليمة والكافية لقرارات مصيرية تمس موارد الدولة الطبيعية والمالية والتزامات ونتائج مستقبلية سلبية تتحملها الأجيال القادمة. وقد أدى ذلك إلى بدء مشروعات غير مدروسة ضاعت فيها مليارات الجنيهات من أموال الدولة المحدودة دون مردود، مثل مشروع توشكى الذي ورطنا فيه رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري، ووقف مشروعات استراتيجية هامة ذات جدوى اقتصادية وأمنية قصوى بعد بدئها مثل مشروع تنمية سيناء الذي أوقف بقدرة قادر بعد تنفيذ الجزء الأكبر من بنيته الأساسية. وبكل أسف استمر التوجه لمشروعات وهمية باهظة التكلفة مثل مشروع ممر التنمية الذي يتبناه الدكتور فاروق الباز وتجاوز التقديرات المبدئية لتكلفته 170 مليار جنيها مصريا (24 بليون دولار أمريكي) بالرغم من معارضة الوزراء المسئولين عن التعمير بدءا بالمهندس حسب الله الكفراوي وعدد من العلميين والمتخصصين والعلماء أبرزهم عالم الجيولوجيا المصري الراحل الشهير الدكتور رشدي سعيد، والرئيس السابق للمعهد الوطني لدراسات الصحراء الدكتور سامر المفتي، وأستاذ الهيدرولوجيا والرئيس السابق لجامعة المنوفية الدكتور مغاوري دياب، والمهندس الاستشاري الدكتور ممدوح حمزة الذين رأوا أن المشروع لا يستند إلى دراسات مقنعة وأن خريطة الموارد الطبيعية بما فيها التربة والمياه الجوفية لا تبرر الاستثمار الهائل في المشروع تحت ظروف وطنية تتسم بنقص السيولة وتفاقم البطالة والفقر وعدم الاستقرار.
ومع قيام دولة الثالث من يوليو بادر الرئيس السيسي، بمجرد توليه المسئولية، إلى اتخاذ قرار "متعلم" بحفر قناة السويس الجديدة وإنشاء شبكة طرق يبلغ إجمالي طولها 3400 كيلومتر، زيدت فيما بعد إلى حوالي 4000 كيلومتر، كلف المقاولين الوطنيين بتنفيذها تحت إشراف الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة لتحقيق السيطرة على الجودة والتكلفة وإدارة وقت التنفيذ في سنة واحدة، وهي مشروعات كثيفة العمالة لازمة لمواجهة فورية لمشكلتي البطالة والعوز لا يمكن أن يختلف عليها أحد، تأتي على غرار ما حدث في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية مشروعات شبكة الطرق الألمانية Autobahn والأمريكية Freeways التي تأسست عليها نهضة البلدين خلال الكساد الكبير Great Depression في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي لتوفر فرص عمل فورية ضرورية لعبور الأزمة الاقتصادية الكبرى وتحفيز النمو بتسهيل الأنشطة التجارية والإنتاجية، والتي تحولا بإنجازها إلى قوى عظمى، وساعدت على عبور ألمانيا المٌدَمَرَة لأزمتها وإعادة البناء لتحقيق نهضتها الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما ينم عن إدراك كامل لمشاكل الوطن وحلولها ومعرفة تامة بأصول الإدارة الاستراتيجية الحديثة. ثم بادر الرئيس إلى تطوير دعوة المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز لمؤتمر للمانحين لدعم مصر إلى مؤتمر عالمي للاستثمار في تنمية الاقتصاد المصري، حقق نجاحا باهرا وبرهن للعالم أن مصر الجديدة تملك الرؤية والاستراتيجية والقيادة اللازمة لتحقيق النجاح.
وبالرغم مما يوفره مشروع العاصمة الجديدة من بنية تحتية متكاملة توفر القاعدة الاتصالاتية والمعلوماتية والطاقة المتجددة المحفزة للإدارة الحديثة، فقد جاء الإعلان عن البدء في إنشاء العاصمة الجديدة في موقعها بين القاهرة الكبرى والسويس والاسماعيلية متسرعا ومفتقدا لنفس اعتبارات الرؤية التي بنيت عليها اختيارات الرئيس لمشروعي حفر القناة الجديدة وإنشاء شبكة الطرق المحققة لتكامل الدولة، مكتفيا بدراسات وزارتي الإسكان والتنمية المحلية وأجهزتها ومستشاريها بما شابهما من فساد - اللتين تديران استراتيجية "إسكان" أدت إلى ما أدت إليه من كوارث عشوائية أهدرت كرامة وإنسانية البشر وأضفت قبحا وحشرا وانسدادا للمدينة، بدلا من استراتيجية "إعمار" ترعى كرامتهم وإنسانيتهم وتسهل حركتهم - الأمر الذي يهدد بتلاحم هذه الكتل في المستقبل "الغير بعيد" لينتج كتلة عمرانية عملاقة Mega City مستحيلة الإدارة - تشغل المساحة بين السويس والاسماعيلية والقاهرة الكبرى (القليوبية والجيزة والقاهرة) ومتجاهلا لضرورة مشاركة لجنة "عليا" من أساتذة وخبراء ومرجعيات تخطيط المدن في الدراسات اللازمة لإنشاء العاصمة الجديدة خصوصا من حيث اختيار الموقع، والتكامل مع البنية المتوفرة فعلا في القاهرة الحالية - على سبيل المثال القصر الرئاسي الفريد القائم فعلا والمباني الحكومية الجديدة والتي يتكلف تكرارها مبالغ باهظة - ومن حيث ترتيب أوليات الاستثمار في ظل الانهيار الاقتصادي والأزمة المالية الخانقة. ولذلك فإن ترتيب أولويات المشروعات الوطنية الكبرى - الذي تجاهله مشروع العاصمة الجديدة - يجب أن يرتكز على دراسة مستفيضة للفرص البديلة تنتج خطة تكاملية متدرجة قابلة للتنفيذ لنهضة مصر طبقا لبرنامج ذو أهداف محددة ومجدولة وإطار زمني محدد، وتتناسب مع موارد الدولة وقدرتها على مجابهة التزاماتها، وتلتزم بصرامة بمقتضيات الأمن الوطني، وترتكز على دراسة مقارنة لتكلفة وعائد وصافي القيمة الحالية للفرص المتاحة للمشروعات الوطنية الكبرى ماليا وبيئيا، وتأخذ في الاعتبار:
·         مقتضيات الأمن الوطني والأولويات الوطنية والأبعاد الإقليمية الأفريقية والعربية
·         استعادة منظومة القيم المجتمعية وعلى رأسها قيمة العمل
·         توفير فرص عمل ضرورية لحل مشكلة البطالة
·         إعادة هيكلة وتنظيم وميكنة الدولة
·         تطوير منظومة إدارة المياه بالدولة باستخدام تكنولوجيات الري الحديثة بدلا من الري بالغمر
·         تطوير منظومة إنتاج وإدارة الطاقة النظيفة بالدولة
·         تحفيز النمو بإعادة التقسيم الإداري وربط المحافظات أرضيا ومائيا وفضائيا لتسهيل الأنشطة التجارية والإنتاجية
·         تحقيق استثمار وتنمية المزايا النسبية والتنافسية للاقتصاد المصري في السوق العالمي
·         تحقيق فائض نقدي من تدفقاتها النقدية دون تأثير مضر باحتياطياتها.
دكتور مدحت بكري
مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا
http://medhatbakri.blogspot.com/2015/03/blog-post.html