السبت، 17 ديسمبر 2011

هل حان الوقت لمراجعة الحسابات وإعادة تموضع مصر وحمايتها من غفلتنا ومن غدرهم؟!

لم يعد خافيا أن الولايات المتحدة الأمريكية التي مارست "لعبة الأمم" لعقود، قد أطلقت العنان لقوتها الناعمة المستخدمة في المواقع الاجتماعية والفضائيات - التي أنتجتها النقلة التكنولوجية الكبرى المتمثلة في تكنولوجيا الحواسب وقواعد البيانات والإنترنت والاتصالات والفضاء - وأحلتها كلما أمكن محل القوة العسكرية التقليدية السافرة كطريقة العمل Modus Operandi - الأقل تكلفة ماليا وبشريا - التي تحقق لها إعادة تشكيل العالم طبقا لأهدافها ومصالحها، وأنها - وإن كانت قد بدأت بحرص في أوروبا الشرقية - فقد منهجتها وأطلقتها في الشرق الأوسط بتزامن وتراتبية في إطار مخطط أعد بعناية، بل وبدأت استخدامها ضد الدولتين الأكبر - الصين وروسيا - وهو ما أنتج مؤخرا ردود أفعال علنية من الدولتين الكبيرتين.
كما أن من المسلم به أن المخطط الدولي المعقد والخطير الذي ندير الموقف الحالي في إطاره ينطلق من حقيقة أن الشرق الأوسط هو منطقة لنفوذ القوى العظمى وأن إسرائيل - التي استأثرت لأكثر من قرن بدعم مطلق من كل قادة القوى الغربية الاستعمارية - هي مركز متقدم لسيطرة القوى العظمى على هذه المنطقة، كما أن قيام إسرائيل لم يكن حدثا وقع في أحد أيام العام 1948، ولكن عملية طويلة الأجل مطردة ومرنة وقابلة للتكيف مع الوضع السياسي الدولي خلال القرن الماضي المفعم بالأحداث والتغيرات الخطيرة للمنطقة والعالم، بدأت بالمؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية في بازل منذ 114 عاما وشارك فيها بكل وضوح قادة الدول العظمى - بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد أمريكا - وما زالت مستمرة.
إننا ندرك أن آلية "الفوضى الخلاقة" هي "عملية" طويلة الأجل من خطوات مطردة تستغرق سنوات لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ارتكزت - قبل ذكاءهم - على غفلتنا وغبائنا وأنانيتنا والخيانة بيننا، وبدأت باستدعاء غضب الجماهير ضد دكتاتور مستبد وفاسد تم تمكينه ومساندته لسنوات، وأتاحت لقلة منتقاه تم دسها بين الشباب التدريب، وللشباب الوطني الغاضب المفتقد للعدالة والكرامة "القوة الناعمة[1]" اللازمة لإطلاق "الثورة"، ثم استغلت التناقضات والاختلافات بين القوى السياسية لاختراق المجتمع وتحريك قوته الذاتية ضده بإذكاء النعرات الدينية والطائفية والتعصب واستقطابه لزعزعة البلد ونشر الفوضى ومنع العودة للاستقرار. وهذه الآلية أيضا ليست جديدة علينا وسبق للولايات المتحدة أن استخدمتها ضدنا قبل أن يتم تطويرها وتدعيمها بالوسائل التكنولوجية المستحدثة.
كذلك فإن من البديهي أن الولايات المتحدة ليست الممارس الوحيد "للعبة الأمم" في مصر والمنطقة ولكنها بالتأكيد اللاعب الأكبر والأقدر. وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بتعيينها كمركز متقدم للسيطرة وحارس على مصالحها في منطقة نفوذها الهامة في الشرق الأوسط، فهي تستعد الآن - بعد أن استكملت حصارها لمصر في أفريقيا والبحر الأحمر - لاستعادة السيطرة على سيناء وربما أيضا اتمام عملية نقل الغزاويين “Transfer” إلى جزء منها، فإن حكومة الملالي في إيران تطل الآن على البحر الأبيض المتوسط مع حلفائها الشيعة العلويين والجعفريين في سوريا ولبنان - وللمفارقة - الإخوان المسلمين السنيين في غزة، وهم - كما نعرف بالتجربة - يثيرون المشاكل في سوريا ولبنان، وفي سيناء وفلسطين، وفي الخليج. كما أن بريطانيا هي من ابتكر "آلية" الدول الدينية والإثنية لاستقطاب شعوب المستعمرات السابقة وإثارة الفتن فيها لمنع نهوضها، وهي من ساندت الحركة الصهيونية بزعامة هيرتزل في فلسطين والحركة الإسلامية بزعامة جناح في الهند وجماعة الإخوان المسلمين بزعامة حسن البنا في مصر - ثم في المنطقة - وأطلقت بإسرائيل وباكستان - بمباركة الصهيونية العالمية - آليتها الخبيثة لإضعاف وتقسيم الدول ويمزقون الآن بها السودان "مركز حوض النيل" إلى جنوب مسيحي وشمال مسلم وغرب إفريقي، ويسعون لتطبيقها في مصر والمنطقة.
لذلك لا يجب أن نصدق رسائل الإعجاب والاستحسان القادمة من الخارج أو نظن للحظة أنهم قد فوجئوا بما أسموه قصدا "الربيع العربي،" فهذا كله جزء من "حيكة السناريو" ونحن بصدد اللعبة الكبرى "لعبة الأمم" وثوابت الأطماع والمصالح الخارجية والداخلية لا تسمح بذلك، والآلية تعتمد على التركيبة المجتمعية وعلى خصائص الفرقاء، وعلى الرغبة في منع عودة مصر للاستقرار ولاستمرار دفعها إلى الفوضى لتصبح الأرض ممهدة لتحقيق أهداف مخطط حقيقي ومعلن لزعزعتها. هذه الأهداف لم تزل كما هي - لم ولن تتغير وإن تغيرت الاستراتيجيات أو التحالفات والأدوات - وهي تؤذن بقرب إسقاط مصر في فتنة دينية هي الخطوة الأخيرة في آلية الفوضى الخلاقة - تبدأ بتولية متطرفين الحكم لتفجير الصراع الديني - وتنتهي بهزيمة نهائية لمصر من الداخل وتقسيم هذه الدولة ذات المقومات العظيمة التي استحالت عليهم بالحروب إلى دويلات على المقاس الصهيوني تصلح لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ولتصل رحلة القرن الصهيونية التي بدأت في 1897 إلى نهايتها وأهدافها طبقا للمخطط الصهيوني بنجاح.
إن من أشادوا بثورتنا وسارعوا إلى تأييدها ووعدونا - مع أتباعهم - بفيض من المساعدات، تبخرت الآن بعد أن نكصوا بوعودهم - وكذلك أتباعهم - يدبرون الآن - مع طابور خامس من قلة قليلة من المجندين المدربين الجدد المدسوسين على الشباب ولكنهم يعلمون بالمخطط ويشاركون في تنفيذه لينشروا الفوضى وينحرفوا بثورة السواد الأعظم من الشباب الوطني النقي العظيم المشارك بالثورة ولا يعلم بالمخطط أو يدرك المخاطر، ومن العملاء القدامى بالتنظيمات السياسية بالداخل الذين ركبوا أكتاف الثوار الشباب وخطفوا ثورتهم - ويسعون الآن - بينما نحن نتوخى أقصى درجات الحذر - لتدمير وتفتيت "مصر التاريخية" وتقسيمها إلى دويلات لا حول لها ولا قوة توفر العمالة الرخيصة وسوق الاستهلاك للاقتصاد الإسرائيلي!
هذا الإطار الدولي المعقد والخطير يتطلب استدعادء المصريين لوعيهم ومواجهتهم لتداعيات وتحديات ثورتهم بكل فصائلهم مجتمعين ومتوافقين في إطار مصري وطني خالص وبغير استبعاد لأي طرف من الأطراف، حتى يستمدوا من اجتماعهم ووفاقهم ووحدة هدفهم قوة تتطلبها خطورة المرحلة وصعوبة المهمة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في ظل الاستقطاب الديني المسيحي والإسلامي والأيديولوجيات المتطرفة والأجندات المخبأة والأفكار التكفيرية والتنظيمات العابرة للحدود الناكرة لحقوق المواطنة ولوحدة النسيج الوطني المصري والداعمة لازدواج الولاء أو تنازعه بين الوطن والدين، وما يصحبها من مظاهر الإثارة الإعلامية والتحريض والتهييج السياسي والديني والحديث عن الماضي وإغفال المستقبل التي يديرها الإعلام بشكل عام والفضائيات بصفة خاصة، والتي تستهدف الحالة النفسية للثائر المصري الغاضب والتركيبة النفسية للمتطرف الإسلامي والمسيحي وضحالة وانتهازية الإعلامي المصري وسهولة انقلابه وتلونه.
يواجه المشير طنطاوي - ومعه المجلس الأعلى الحاكم - الأعلم منا جميعا الآن بمعطيات الموقف الذي وجد نفسه فيه وشملت ما تعرض ويتعرض له من ضغوط خارجية وداخلية، مأزقا جميع معطياته خارج إرادته، سيخرج منه خاسرا مهما كانت قراراته - خصوصا إذا ما اختار طريق السلامة ولم تكن المخاطرة ضمن اختياراته - وهذا ما يسمونه “Catch 22” أو "المسكة 22"، أي المأزق الذي يخرج منه خاسرا أيا كان ما يفعله! ولذلك - ولأن هذا هو ما يجب أن يكون في كل الأحوال - يجب أن يكون الاعتبار الوحيد في اتخاذ القرار هو مصلحة مصر دون الرضوخ لأية ضغوط مهما كان نوعها أو قدرها أو مصدرها، ودون إدخال لأي اعتبارات شخصية أو داخلية أو خارجية - خصوصا ما يتعلق برأي الآخرين في كيفية علاج مصر لمشاكلها - فلا رأي يهم إزاء مصالح مصر وحياتها؛ وهذه مسألة حياة أو موت لهذه الأمة العريقة التي أودعها الله أمانة في عنق المشير والمجلس دونما اختيار.
ولأن المشير - ولا شك - يحاول بكل جهده ألا يخطئ، كان حرصه الشديد سببا في أخطاء قاتلة يجب أن يقوم هو شخصيا بتصحيحها مهما كانت المخاطرة، لأن المخاطرة هي السبيل الوحيد إلى الحلول الفعالة في مثل حالنا. فمن الواضح أن ما توفر للمشير من تحليل ونصح خلال هذه الفترة كان كارثيا، وكانت أهم مظاهر السنة الماضية استعجال القرارات الاستراتيجية ونقص الحزم والحسم في التعامل مع أعراض الفوضى، فجاءت القرارات متسرعة ومفتقدة للموضوعية أو منحازة ولا تحقق المصلحة العامة حين كان يجب أن تكون متأنية وهادئة وموضوعية، وجاءت بطيئة فاقدة لمفعولها ومعناها حين كان يجب أن تكون سريعة وحازمة لتحسم الموقف وتحفظ للدولة هيبتها ومن ثم فعاليتها. ولذلك، ولأننا في مواجهة مع أعتى خبراء وأدوات التحليل واتخاذ القرار، فلا مفر من تغيير فوري لكل من قام بالتحليل ووفر النصح وحيثيات القرار. لقد حان الوقت لمراجعة الحسابات وإعادة تموضع مصر وحمايتها من غفلتنا ومن غدرهم!
دكتور مدحت بكري

[1] وصف جوليان أسانج Julian Assange، مؤسس ويكيليكس Wikileaks المواقع الاجتماعية - فيس بوك على وجه الخصوص - بأنها "أبشع آلة تجسس تم اختراعها على الإطلاق" ووصف جيرالد نيرو Gerald Nero الأستاذ بجامعة بروفانس ومؤلف كتاب "مخاطر الانترنت Dangers of the Internet"، أحدث طرق التجسس التي قامت بها الاستخبارات الاسرائيلية ووكالة المخابرات المركزية على الإنترنت وكشف عن شبكة من مجندين إسرائيليين متخصصين في علم النفس لجذب الشباب من العالم الثالث منذ مايو 2001.

الأحد، 4 ديسمبر 2011

"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" صدق الله العظيم

يُرْوَى أن أحد اليهود عندما سمع بهذه الآية قال: "والله لو نزلت علينا آية كمثل هذه الآية لجعلنا يوم نزولها عيدا لنا". فلقد كان هذا الإعلان الإلهي حُلمَ كل الأديان من قبل، لكي تعلن تلك الأديان ألا ناسخ لها من بعدها، وأنها ستكون الدين الأخير الكامل المتكامل الذي يصلح للبشر في كل الأوقات.
وصدق الله العظيم، فقد أتم نعمته علينا وأعطانا ديناً سمحا وسطيا كاملاً متكاملاً، أعطى للإنسان حرية الفكر واختيار العقيدة، ديناً لا يُكره المسلم على أداء شعائره، خص به الله ذاته - بغير شريك - بحساب كل إنسان من عباده، وقال في كتابه الحكيم:
”وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” [الكهف]
"لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ." [البقرة]
"ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء]
"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ" [الغاشية]
"‏‏فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى" ‏[‏الأعلى‏]‏‏
‏‏"فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" ‏[‏الذاريات‏‏]‏
"وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء]
”فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" [الزلزلة]
وفي حين أمر  صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأن يبحثوا عن الحقيقة في ضمائرهم - وليس في اجتهادات الآخرين - بقوله في حديث صحيح، رواه أحمد والدارميُّ عن وابصةَ الأسديِّ: "اسْتَفْتِ قَلْبَك واسْتَفْتِ نَفْسَك، اسْتَفْتِ قَلْبَك واسْتَفْتِ نَفْسَك، اسْتَفْتِ قَلْبَك واسْتَفْتِ نَفْسَك؛ البِرّ ما اطْمَأنَّت إليه النَّفْس والإثْم ما حاك في النَّفْس وترَدَّد في الصَدْر، وإن أَفْتاك الناس وأَفْتوك"، فإننا نرى بيننا اليوم من يحتكرون الحكمة ويعتقدون أنهم وحدهم يفهمون كلام الله ورسوله، وأن عليهم واجبا دينيا بفرض فهمهم هم لكلام الله وتصورهم لشريعته على جميع المؤمنين، وحتى على الناس من أتباع الديانات الأخرى، - وأن عليهم في سبيل ذلك "امتلاك الأرض وفرض الرأي". هذا الفهم المستورد المغرض الذي يسيس الدين ويضفي عليه الصفة الجمعية ويولي البعض على الكل، ليس من الإسلام في شيء. فليس لجماعة من المسلمين أن تكره مسلما - أو غير مسلم - على ما لا يقبله قلبه وتطمئن إليه نفسه أو يخل بخصوصية علاقة العبد بربه ومسئوليته الحصرية يوم الحساب عن أعماله، فالله سبحانه يحاسب العبد ولا يحاسب الجماعة. ولكنهم يأخذون لأنفسهم حق تطبيق شرع الله كما يفهمونه هم - لا بل الحساب والعقاب - ويُقَوِّلون الله ما لم يقله، فيضعون المصريين في مواجهة افتراضية مصطنعة مع الله بينما هم - فيما يذهبون إليه - على النقيض من شرع الله، وهم يكادون أن يكونوا من نزلت فيهم الآية: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)" [البقرة]، وهم الذين قال عنهم الصحابي سلمان الفارسي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يجئ أهل هذه الآية بعد"، فهل جاء أخيرا زمن أهل الآية الكريمة؟ وهل يأتون اليوم كطلاب سلطة محتكرين للعلم ممارسين للعمل السري وللعنف - يمتد تطرفهم لمدى واسع من فرض الرأي بالقوة في أكثرهم اعتدالا إلى التكفير وإهدار الدم في أكثرهم غلوا -  فيفسدون في الأرض ويحسبون أنهم مصلحون فيها؟!
لقد تَرَدّيْنا - في هذا الزمن الرديء - فأصبحنا نرى بين المسلمين ما نهى الله نبيه عنه، لنجد بيننا مَنْ هو مُسَيْطِرٍ ومَنْ هو مُصَيْطَر. فهم - كتنظيم أصولي عابر للحدود، ذو طبيعة عسكرية يقسم أعضاؤه على السرية والولاء والسمع والطاعة لغير الوطن لا يدخلون مصلحة مصر الوطنية كأولوية في حساباتهم وإنما تحركهم رغبة في فرض الرأي وشهوة للسلطة وأجندات مخفية - قادوا الإسلام في مصر من الوسطية إلى الوهابية، وأطلقوا الإرهاب الديني في مصر منذ أربعينات القرن الماضي، واستخدموا الدين بلا حدود في السعي إلى السيطرة على الناس لخدمة أجندات سياسية غريبة على مصر، وهم التنظيم الأم الذي انبثقت عنه كل التنظيمات السلفية بما فيها تنظيم القاعدة، الذي انتمى مؤسسه أسامة بن لادن للفصيل القطبي من الجماعة.
وهم - كما يشهد تاريخهم على مدى 83 عاما - لم يغيروا أهدافهم ولكن ما تبدل هو استراتيجيتهم كجزء من عملية تسويقية تستهدف قطاعات متباينة من المجتمع، فبينما أدخلوا مؤخرا ألفاظ "الديموقراطية والوطنية" على أدبياتهم "الأصولية" للتمويه، تزيد التنظيمات السلفبة المنبثقة عنهم من تشددها، وهم - ولهم كيانات منظمة في نحو 80 دولة - ما زال يراودهم حلم "دولة الإسلام العالمية" ويسعون لتحقيقه، ويستخدمون الآن ديموقراطية الثورة - كما أعلن قادتهم - "لامتلاك الأرض وفرض الرأي". ولذلك، فهم يتربصون الآن بعشرات الآلاف من مسئولي وموظفي الدولة الوطنيين - من بينهم قامات شاهقة خدمت وطنها في ظل الفساد ورغما عنه - لا يعرفون لهم انتماء آخر غير وطنهم فخدموا مصر بإخلاص واقتدار. وهم يسعون الآن للتخلص منهم - باعتبارهم "فلول" - وإحلالهم برفاق لهم من الجماعة لتحقيق "التمكين" ووأد الديموقراطية التي استشهد من أجلها الشباب الوطني وخرجت مصر كلها.
ما لا تدركه الجماعات الأصولية المتطرفة هو أنها تُسْتَخْدَم - بإرادتها أو بغير إرادتها - كمُفَجّر للمنطقة وجزء أساسي من آليات المخطط الصهيوني طويل الأجل الذي أطلق في بازل السويسرية في 1897، واستغرقت مرحلته الأولى خمسون عاما لإتمامها بإنشاء دولة ليهود العالم في فلسطين وإعلان استقلال إسرائيل، وتتم الآن على الأرض خطوته الأخيرة لتفريغ المنطقة من الدول القادرة على تهديد أمنها - أو حتى إزعاجها - باستخدام "القوة الناعمة" لتحريك الشباب الوطني الغاضب لإطلاق "الثورة" على حكام طغاة وفاسدين - صنعتهم ومكنتهم القوى الاستعمارية - ثم دفع القوى الداخلية المتطرفة لمنع الاستقرار وإطلاق "الصراع المدني" لتفجير المنطقة وتفتيتها وإعادة تقسيمها إلى دويلات دينية وطائفية صغيرة غير قادرة على إزعاج القوى العظمى أو إسرائيل في المستقبل القريب أو البعيد، وتعمل - كأمر واقع - على تأمين إسرائيل وتحقيق نهائيتها كالقوة العظمى بالمنطقة والمركز الدائم للسيطرة عليها كمنطقة نفوذ، ولتنتهي المنطقة كَمَوْرٍد للعمالة الرخيصة وسوق يقارب نصف مليار مستهلك لاقتصاد الإمبراطورية الإسرائيلية التي يكون لنا الفضل الأكبر في ظهورها بالمنطقة، وإلا فلماذا يعلن نتانياهو فجأة استعداد إسرائيل للتعاون مع حكومات إسلامية في المنطقة وهو الذي يرفض حكومة الإخوان المسلمين في غزة؟!
لا شك أن الإطار الدولي المعقد والخطير الذي يحيطنا يتطلب مواجهة المصريين لتداعيات وتحديات ثورتهم بكل فصائلهم مجتمعين ومتوافقين في إطار مصري وطني خالص وبغير استبعاد لأي طرف من الأطراف، حتى يستمدوا من اجتماعهم ووفاقهم ووحدة هدفهم قوة تتطلبها خطورة المرحلة وصعوبة المهمة. إلا أن هذا الوفاق لا يمكن أن يتحقق في ظل الاستقطاب الديني المسيحي والإسلامي والأيديولوجيات المتطرفة والأجندات المخبأة والأفكار التكفيرية والتنظيمات العابرة للحدود الناكرة لحقوق المواطنة ولوحدة النسيج الوطني المصري. ولذلك فإن هناك حاجة ملحة واضحة لأن تبادر الجماعات الأصولية إلى نبذ العنف وفرض الرأي، والاعتذار عن الماضي، وأن تعود إلى الوسطية التي أُمِرْنا بها بقوله تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" [البقرة]، وإلى الاصطفاف الوطني في مواجهة خطر محدق عظيم، وأن يعمل جميع المصريين - بكل فصائلهم- معا في هذا المفترق الحرج للغاية لإنقاذ "مصر التاريخية" من خطر داهم لم يسبق لمصر أن تعرضت لمثله أبدا.
دكتور مدحت بكري

الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

هل يستعيد المصريون الوعي بعد أن أيقظ الاستبداد والفساد مصر من غيبوبة مصطنعة؟!

Will Egyptians regain awareness after tyranny and corruption awoke Egypt from an induced coma?!
كان الوعي حاضرا دائما لم يغب أبدا عن المصريين المتحضرين منذ أن اكتشفوا بفراستهم محمد علي باشا فالتفوا حوله وطالبوا الخليفة العثماني بتوليته حكم مصر فقاد تحديث مصر وبدأ نهضتها الحديثة، وحافظوا على وحدة الأمة حتى عندما أصبحت مستعمرة تحت الاحتلال يحكمها المندوب السامي - ثم السفير - البريطاني، ولا رأي فيها ولا حكم لملك أو لفرد أو جماعة من أبنائها وكان الأمر كله للحكومة البريطانية ومندوبها في القاهرة، الذي أدار البلد كمزرعة للتاج البريطاني والمصريين كعمال سخرة لخدمة مصالح التاج. وقاوم المصريون الاحتلال البريطاني، وواجهوا بوعيهم سياسة التفرقة والوقيعة الكلاسيكية التي استخدمها الاستعمار البريطاني دائما للتفريق بين الطوائف في المستعمرات وإثارة الفتن فيها لتسهيل حكمها، فرفعت مصر ثورة 19 الواعية المتحضرة السمحة شعار "الهلال والصليب" وانتخب مسلموها في عشرينات القرن الماضي مجلسا نيابيا ربعه من المسيحيين الأقباط، ليعطوا العالم كله درسا في الوسطية والسماحة والعيش المشترك، الذي بدأ - ولم ينقطع - منذ دخول الإسلام إلى مصر وأسلم من الأقباط من شاء وبقى على دينه من أراد.
إلا أن هذا الوعي - الذي كان مرتبطا خلال النصف الأول من القرن العشرين بالهوية الأجنبية للمستعمر - سرعان ما انحسر، فلم يعد المصريون في حاجة للحرص بعد استبدال المحتل الأجنبي بابن البلد الذي شاركهم أحلامهم ورفع شعاراتهم وردد هتافاتهم، ولكنه شرطها بزعامته وبولائهم، وكان دخول المصريين بإرادتهم - بعد أن أسقطوا حرصهم - محبسهم في قمقم الدكتاتورية خلال السنوات التالية لعام 1952 وحتى 2011 نقطة التحول من المشاركة - في ظل دستور حديث قبل 1952 - إلى الاستبعاد من الحياة السياسية والعزوف عنها، وجاءت السيطرة على المعلومة بما سمي "بالإعلام القومي" لتفقد المصريين الوعي والقدرة على الحكم على الأمور والرغبة في المشاركة. وتوالى عل مصر ثلاثة رؤساء دكتاتوريين بعد الرئيس محمد نجيب الذي سرعان ما غدر به وعزل وأخرج من التاريخ، كان أولهم الرئيس عبد الناصر الذي كان زعيما بالفطرة، ولكنه انشغل بزعامته عن مصلحة مصر أو تصور أنها تحققها، وقادته زعامته إلى صراع مميت مع القوى العظمى فأضاع مصر. وكان ثانيهم الرئيس السادات وطنيا أصيلا ذو رؤية وفطنة حرر البلد من الاحتلال الإسرائيلي، وخانه ذكاؤه عندما أعاد السلفيين إلى المسرح فقتلوه، ويجاهرون اليوم "بصحة قتله في سياق المرحلة."
وكان الرئيس مبارك - ثالث الرؤساء وأسوأهم - شخصا محدودا متسلطا لا صديق له حولته أنانيته إلى طاغية فاسد حكم بدستور معيب وسعى لتوريث الحكم ومكن الفساد وأظهر على مدى سنوات حكمه نقصا في الإحساس باحتياجات الطبقات المتوسطة والفقيرة، وانحيازا هائلا - وصل إلى الفساد - للطبقة الاجتماعية العليا التي أغدق عليها العطايا من أملاك الدولة وطبق سياسة ضريبية تتجاهل محاسبتهم ضريبيا على الأرباح الرأسمالية وتكرس تركيز الثروة وتزيد الهوة بين الغنى والفقر، فأصبحت الدعوة إلى التغيير في مصر قاسما مشتركا بين فرقاء مختلفين لا تجمعهم رؤية مشتركة، وانطلقت ثورة 25 يناير التي قادها الشباب المتعلم لتوقظ مصر من غيبوبة مصطنعة. فهل يسترد المصريون البلد ويحمون الثورة من الاختطاف أو الانحراف ويستكملون بناء وتثبيت النظام الجديد ويعيدون الالتزام إلى الشارع والبلد إلى العمل والإنتاج، قبل أن تجرفنا رغبتنا المحقة في "تغيير تأخر كثيرا" إلى أماكن لم نكن نقصدها بفعل متغيرات داخلية وخارجية كثيرة، أو تأخذنا المؤامرات الخارجية والداخلية المحدقة بنا إلى انتكاسة كبرى تهدد وجود مصر التاريخي من أساسه؟!
لا شك أن على الشباب - في ضوء المخاطر المحدقة بمصر وبعد كل مأ أظهره من وطنية وشجاعة وتضحية - أن يأخذ حذره من أن تستخدم رغما عنه نفس التكنولوجيا ومواقع الإنترنت[[1 - التي أنجحت تحركات شباب الثورة في المقام الأول - في تنفيذ "مخططات معلنة" لقوى خارجية لإعادة ترتيب المنطقة وإلحاق الضرر بمصر، وأن يفطن إلى الانقلاب الإعلامي الكامل الذي اتجه - بنفس مروجي النظام الساقط - لشيطنة ورجم الرئيس السابق وتأليه شباب 25 يناير 2011 على غرار ما حدث لشباب 23 يوليو 1952، وألا يفرط الآن فيما حققه فتختطف ثورته، وألا يبالغ في تقدير علمه وخبرته وحكمته فيقع في فخ الغرور والوهم ويأخذ مصر إلى طريق سبق إليه شباب ثورة 1952 وأضاع مصر. على الشباب أن ينظر إلى أوروبا ليدرك أن الدول أيضا تفلس، وأن يعيد تقدير الموقف ومراجعة الحسابات في ضوء التأثيرات القاتلة لتوقف البلد ومعطيات خارجية وداخلية بالغة التعقيد تنذر باختطاف ثورتهم وإفلاس وتدمير مصر خصوصا مع الزيادة المنتظرة في البطالة وعشرات المليارات من الأعباء الجديدة المترتبة على عودة العمالة المصرية من ليبيا والمنطقة. وعلى الشباب أن يدرك، أنه بخلاف الإنجاز لتنحي الرئيس في 11 فبراير، يبقى أن إسقاط النظام لم يكتمل بعد وأن الحكم النهائي بنجاح أو فشل ثورة الشباب في 25 يناير 2011 من منظور وطني كلي يظل مرهونا بفهمنا للإطار الدولي واستيعابنا لطبيعة ورؤى وأهداف واستراتيجيات ومخططات وأدوات القوى الدولية وتشابكاتها وتفاعلاتها، وبزيادة حبكة ودقة وسرعة الإجراءات المضادة لمشروع "الشرق الأوسط الكبير" لحسم الموقف الكلي لصالح مصر، وباستكمال بناء وتثبيت النظام الجديد، وبعودة النظام والالتزام إلى الشارع وعودة البلد إلى العمل والإنتاج.
كما أن علينا جمعا أن نقدر - من منطلق المسئولية الوطنية - أن خسائر مصر تتعدى بكثير النتائج المباشرة للعنف والتدمير، وتمتد إلى انهيار سوق المال والمراكز المالية للمستثمرين وانتقال ملكية الأصول المصرية لأجانب بأبخس الأثمان، وتراجع المؤشرات الائتمانية للاقتصاد وخسائر الناتج المحلي بسبب توقف البلد والتي تناهز مليارين من الجنيهات - تزيد أو تقل - في كل يوم منذ السادس والعشرين من يناير، وأن استمرار ما يحدث قد يمثل دعوة لشباب عسكريين للمبادرة - من منطلق حسن النية أيضا - إلى انقلاب جديد على الدولة لإنقاذ البلد، وساعتها يتصادم الشباب العسكريين مع شباب الثورة، فتسيل دماء مصرية ويعيد التاريخ نفسه وتسقط مصر - في أحسن الأحوال إذا أمهلتها "الفوضى الخلاقة" - في بئر الشرعية الثورية والتجارب والمغامرات مرة أخرى. كما أن علينا أن نعي أن مصر المسـتقطبة والمنهكة والمأزومة والمســتهدفة لن تحتمل دورة أخرى كالتي انقضت، بعد أصبحت صحراء بلا مياه وبشـرا بلا إنتاجيـة يتربص بها المتربصون وتحاصرها الأطماع من كل اتجاه. ولذلك فإن الشباب الوطني الذكي والمتحمس مطالب بأن يظهر من الحكمة ما يتناسب مع خطورة الموقف وفداحة الخسائر.
يبقى أن نتفهم أن بقاء مصر كلها مشروط بصفاء النوايا وسلامة المقاصد وإنكار الذات، وبعودتنا إلى خصوصيتنا المصرية وباستعادتنا لوعينا والتركيز والجَلَد وتكريس الطاقات وتضافرها، وبمراجعة موقعنا ودورنا وأداءنا وقيمنا في ضوء المصالح والأولويات المصرية دون غيرها، وبوسطيتنا وسعينا إلى وطن واحد لجميع المصريين تتساوى فيه علاقة المصريين بالوطن دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو العقيدة، وتظهر فيه سطوة الدستور والقانون وتٌجَرم أية دعوة إلى الاستقطاب والفتنة، وأن مثل هذه الأهداف والمهام التي تمس مصير الوطن لا تتسع للأجندات السياسية أو لأحلام المجد أو الكسب الشخصي وتتطلب لقيادتها رجال ونساء دولة وعلم وفكر ممن ينكرون الذات ويمتلكون الإرادة والحكمة والرؤية الاستراتيجية والحنكة السياسية وأدوات ومقومات وخبرات وتجارب العمل العام. ما تحتاجه مصر في المرحلة الانتقالية - في ضوء المخاطر الخارجية والداخلية المحدقة بها والتي تهدد بشكل حقيقي وجودها التاريخي - هو اليقظة والتعامل بيد قوية وحازمة وحاسمة وعاقلة وهادئة مع ما يدبر لها خارجيا وداخليا دون إهمال لأجندة التغيير السياسي والاجتماعي التي يجب أن تتضمن برنامجا زمنيا - يضمن الوقت الكافي للإعداد المتأني وللتوافق الوطني - قبل الاستفتاء على دستور جديد وقوانين جديدة لدولة مدنية برلمانية ديموقراطية تكفل حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية لكل المصريين وتمنع التمييز بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو العقيدة، وتضمن الشفافية والمساءلة وتتيح محاسبة ومحاكمة الرئيس وأعضاء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحكم المحلي. كما سيكون من الضروري لمصر - حتى تحقق "تغييرا منهجيا منتظما ومتزنا" على النموذج الأسيوي تتجاوز به تحديات غير مسبوقة - أن تتبني في المرحلة القادمة الحاسمة من تاريخها الوطني أهدافا اقتصادية واضحة وخطة تكاملية قابلة للتنفيذ لنهضة مصر ترتكز على دراسة تكلفة وعائد الفرص المتاحة للمشروعات الوطنية ماليا وبيئيا وأمنيا، واستثمار وتنمية المزايا النسبية والتنافسية للاقتصاد المصري في السوق العالمي، ومقاربة التنمية على أربع محاور أساسية هي البشر والمياه والقيمة المضافة والتسويق.
سيخطئ المصريون خطأ فادحا إذا ظنوا أن ثورتهم قد نجحت وحققت أهدافها بعد إقصاء الرئيس السابق وشلة المنتفعين الذين أحاط بهم نفسه، أو خيل لهم أن المخاطر قد انحسرت وابتعدت عن مصر، أو صدقوا آهات الإعجاب والاستحسان القادمة من الخارج، فنحن بصدد اللعبة الكبرى "لعبة الأمم" وثوابت الأطماع والمصالح الخارجية والداخلية لا تسمح بذلك، ونحن جزء مهم من منطقة نفوذ للدول العظمى، والأهداف لم تزل كما هي لم ولن تتغير وإن تغيرت الاستراتيجيات أو التحالفات والأدوات. ولذلك، فقد حان الوقت لإنهاء الحديث المكرر في أمور الماضي والتركيز على العمل لمستقبل مصر، ولدرء أخطار خارجية وداخلية كثيرة، تتضمن خطة تعتمد على الداخل وتستخدم التكنولوجيا والمواقع الاجتماعية على الإنترنت لاختراقه وتحريك قوته الذاتية ضده، ويتقاطع فيها المشروع الصهيوني للمنطقة في إطار "مبادرة الشرق الأوسط الكبير GMEI" التي أعلنتها الإدارة الأمريكية السابقة[2]، مع مخططات التطرف الإسلامي والمسيحي والإرهاب بالمنطقة، ومع دور يهدف لامتلاك الأرض وفرض الرأي - لعبته وتلعبه داخليا قوى ذات أجندات خاصة عابرة للحدود سبق لها العمل لحساب المخابرات المركزية الأمريكية في أفغانستان - ويفي تماما بمتطلبات آلية[3] الفوضى الخلاقة لإثارة الفتنة الدينية والصراع في مصر وخلق موقف جديد على الأرض ينتهي بتقسيم مصر وضمان نهائية إسرائيل. لا شك أن كل الأحداث تفصح عن رغبة شريرة في منع العودة للاستقرار ولاستمرار دفع مصر إلى الفوضى، لتصبح الأرض ممهدة لتحقيق أهداف مخطط خبيث - حقيقي ومعلن - لزعزعة مصر. وتؤذن بقرب إسقاط مصر في فتنة دينية - هي الخطوة الأخيرة في آلية الفوضى الخلاقة - لتنتهي بهزيمة نهائية لمصر من الداخل وتقسيم هذه الدولة ذات المقومات العظيمة التي استحالت عليهم بالحروب إلى دويلات على المقاس الصهيوني تصلح لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. فهل يستعيد المصريون الوعي قبل أن يسبق السيف العزل؟!



[1]تشكل الإنترنت الآن - بعد أن حولت ثورة الاتصالات والمعلومات العالم إلى قرية صغيرة تسيطر عليها قوة غير منظورة تؤثر في الواقع ولا تتأثر به - محور القوة الناعمة وإحدى أهم الأذرع المخابراتية للقوى العظمى ووسيلة مؤثرة جديدة لإحداث التغيير والسيطرة، وللانتشار بسرعة مذهلة بعد أن أوجدت للشباب متنفسا للتعبير من خلاله عن مشكلات الفراغ والتغييب والخضوع والتهميش، ليقدم الشباب دون أن يعرفوا معلومات مهمة للمخابرات الإسرائيلية أو الأمريكية. ولذلك فلا يستبعد - مثلا - أن يستخدم موقع "الفيس بوك" الذي أسسه ويملكه ويديره يهود (Zuckerberg/Moskovitz/Saverin) لصالح إسرائيل وجهات صهيونية تقف وراءه للحصول على معلومات باستخدام أحدث طرق للجاسوسية من أشخاص عاديين لا يعرفون أنهم يقومون بمثل هذه المهمة الخطيرة، ولكنهم يعتقدون بأنهم يقضون الوقت أمام صفحات الدردشة الفورية في أمور تبدو غير مهمة، أو أنهم في خلوة يتواصلون مع ثقاة لهم.
[2]أعلن الرئيس جورج بوش في 6 نوفمبر 2003 خلال حديثه "للوقف الوطني للديمقراطية National Endowment for Democracy - المعروفة اختصارا NED" - وهي المناسبة التي يضع فيها الرئيس الأمريكي مخطط إدارته العام للشرق الأوسط - مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يهدف لإعادة تشكيل المنطقة، ثم قدمه في يونيو 2004، لقمة مجموعة الثمانية بجورجيا تحت اسم مبادرة الشرق الأوسط الكبير لتصدير الديمقراطية إلى العالم العربي "Greater Middle East Initiative-GMEI" على غرار مشروع هلسنكي لتصدير الديمقراطية إلى الاتحاد السوفييتي.
[3]تعتمد آلية "الفوضى الخلاقة" على تمكين ومساندة أنظمة دكتاتورية مستبدة وفاسدة لاستدعاء غضب الجماهير، واستخدام الطبيعة الانفعالية الحماسية للجماهير الغاضبة لإطلاقها ذاتيا "لتحريك" الاحتجاجات ضد الأنظمة، ثم استغلال التناقضات والاختلافات بين التنظيمات السياسية لبدء الصراعات ونشر الفوضى، وإزكاء النعرات الدينية والطائفية والتعصب واستقطاب المجتمع لإثارة الفتنة وإشعال المنطقة وتفجيرها ليسهل تقسيمها إلى كيانات ضعيفة وإعادة ترتيبها في نهاية الأمر.

الأحد، 20 نوفمبر 2011

سامي البحيري: المصريون مسلمون ومسيحيون ونساء بمقدورهم هزيمة التطرف

من أجمل ما قرأت عن التسامح الذى كان منتشرا في مصر في النصف الأول من القرن العشرين:
من المعروف أن نجيب الريحاني وبديع خيرى كونا فرقة مسرحية وكذلك كتبا أفلاما سينمائيا سويا، وكان شركاء في الأعمال الفنية وفي الأعمال التجارية المرتبطة بتلك الأعمال الفنية، ومازالت أعمالهم رغم مرور أكثر من 60 عاما هي من أبرز الأعمال السينمائية في تاريخ السينما المصرية. كان لا بد من تلك المقدمة، والحكاية أن نجيب الريحاني علم بأن أحد أقرباء بديع خيرى قد مات، فذهب نجيب الريحاني لتقديم واجب العزاء، وعندما ذهب إلي مكان العزاء لاحظ أن هناك شيخا يقرأ القرآن الكريم، فبعد أن انتهي الشيخ من القراءة، ذهب الريحاني إلي بديع خيرى يلومه بقوله: إزاي عمرك ما قلت لي إنك مسلم؟ فأجابه بديع خيرى بأجمل إجابة علي الإطلاق: ما انت عمرك ما سألتني!!
للعلم نجيب الريحاني كان مسيحيا من أب عراقي وأم مصرية!!
واليوم ومصر مقبلة علي أهم انتخابات في تاريخها علي الإطلاق يجب أن ننتهز تلك الفرصة لاستعادة مصر المتسامحة المتحررة والتي فتحت ذراعيها لكل الناس من أطراف العالم: لليونانيين والإيطاليين والشوام والأرمن واليهود والشراكسة والعرب والبدو، كانت مصر بوتقة ذابت فيها كل الأجناس والأديان، حتى جاءت نعرة :"مصر للمصريين" ثم جاء بعد ذلك شعار "الإسلام هو الحل"، وهذين الشعارين تجاهلا تماما تلك البوتقة الجميلة والتي أنتجت لنا مصر الحديثة والتي أنشأ بها الخديوي إسماعيل برلمانا في القرن التاسع عشر قبل إيطاليا والعديد من بلدان أوروبا، وكان اليونانيون والإيطاليون يحضرون للعمل في مصر بمهن خدمات المطاعم والبقالات والمباني.
ورغم حالة التشاؤم التي تعم العديد من المصريين الأحرار هذه الأيام بسبب المنحنى الذى اتجهت إليه ثورة 25 يناير المصرية، ورغم الأصوات العالية للمتطرفين، إلا أننى متفاءل بأن المصريين سيختارون البرلمان القادم الذى سيحقق مبادئ ثورة 25 يناير :"حرية وعدالة" ، وتفاؤلي مشروط بثلاثة شروط صعبة المنال ولكنها ليست مستحيلة:
أولها: أن تتوجه كل نساء مصر للتصويت ضد التطرف ومع الحرية الحقيقية
وأقول لك يا أمي و يا أختي ويا ابنتي، إذا لم تذهبي للتصويت فربما سوف يأتي للحكم من يجبرك علي تلبسين كما ترين في تلك الصورة

وعندما يعقدون "المؤتمر النسائي الأول" فلن تكوني مدعوة لهذا المؤتمر كما ترين في هذه الصورة:
هل تريدين أن تحرمي من حقك في التعليم؟
هل تريدين أن تحرمي من حقك في العمل؟
هل تريدين أن تحرمي من حقك في طلب الطلاق؟
هل تريدين أن لا تخرجي من بيتك إلا إلي بيت زوجك أو إلي القبر، كما يريدون؟
هل تريدين أن تحرمي من الحياة؟
هل تريدين أن تصبحي مجرد وعاء يفرغ الرجل فيه شهوته؟
هل تريدين أن تصبحي مجرد حامل لأطفاله؟
هل تريدين أن يرش أحد المعتوهين وجهك بميه نار حتى  لا تكشفيه مرة أخرى؟
هل تريدين أن تعطى صوتك لمن يعتبره عورة؟
إذا كنت تريدين كل هذا فامكثي في بيتك يوم الانتخابات ولا تلومن إلا نفسك بعد ذلك.
أما إذا كنت ترغبين في تحرير المرأة المصرية فاذهبي إلي صندوق الانتخابات وأعطى صوتك لمن لا يعتبره عورة!! أنت نصف المجتمع، وبدونك فإن مصر سوف لا تستطيع الحركة بساق واحدة.
ثانيها: أن يتوجه كل المصريين المسيحيين للإدلاء بأصواتهم،
وهذه هي كلمتي إليكم:
أنتم أصل مصر، أنتم لستم أقلية، ولستم خواجات ولستم مؤقتين، أنتم "ملح الأرض" وبمقدوركم تغيير الخارطة السياسية في مصر لو تخليتم عن سلبيتكم، لن ينفعكم قسيس أو كنيسة، سوف تنفعكم فقط أصواتكم.
هل تريدون أن تعاملوا كأهل ذمة تدفعون الجزية "عن يد وأنتم صاغرون"؟
هل تريدون أن تحرق وتدمر كنائسكم؟
هل تريدون لأولادكم أن يقتلوا في الشوارع أو المدارس إذا ارتدوا صلبانا؟
هل تريدون أن تتحجب بناتكم ونسائكم رغما عنهم؟
هل تريدون أن تحرموا من الدفاع عن وطنكم؟
هل تريدون أن  يتم إجباركم علي الهجرة من بلدكم مصر كما فعلوا مع يهود مصر؟
هل تريدون أن تحرموا من تولي الوظائف "الحساسة" في الدولة وكأنكم جواسيس؟
هل تريدون أن يستمر تنفيذ مخطط تقسيم مصر؟
هل تريدون أن يأتى جيوش أجنبية إلي مصر لحمايتكم؟
هل تريدون لأولادكم وبناتكم من الحرمان من التفوق الدراسي الذى يستحقونه؟
إذا كنتم تريدون كل ذلك فلا تذهبوا للإدلاء بأصواتكم، وساعتها سوف تندمون حيث لا ينفع الندم، لأن هذه الانتخابات ربما تكون آخر انتخابات تشهدها مصر إذا فاز بها المتطرفون لأنهم لايعترفون بالانتخابات ولا الديموقراطية، ويعتبرون الخروج عن الحاكم خروجا عن الملة.
ثالثها: إلي المصريين المسلمين أقول:
أعرف أن بعض المتطرفين قد يخدعوكم بمنظرهم المتدين، وتواجدهم معكم في المسجد دائما، وأنكم ربما تنتخبوهم لأنهم "ناس بتوع ربنا"، ولكن يجب أن تعرفوا أن كلنا "بتوع ربنا" ولسنا بتوع الشيطان، وأن المصريين بطبيعتهم متدينين باعتدال بدون هوس ديني وفي نفس الوقت يؤمنون بحظهم من الدنيا، "اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا".
هل تريدون أن يأتي من يفرض عليكم ماذا تلبسون وتشربون؟
هل تريدون أن تجبروا علي إطلاق لحاكم؟
هل تريدون لمصر أن تصبح مثل أفغانستان أو الصومال؟
هل تريدون معاملة بناتكم وزوجاتكم كمواطنين من الدرجة الثانية؟
هل تريدون أن يحكمكم طالبان؟
هل تريدون لأولادكم وبناتكم الخمسة ملايين الذين يعملون في مجال السياحة أن يصبحوا بلا عمل؟
هل تريدون هدم آثاركم العظيمة التي تركها لنا أجدادنا الفراعنة العظماء منذ خمسة آلاف سنة باعتبارها أصناما؟
هل تريدون هدم ضريح الحسين والسيدة زينب وغيرهم من عباد الله الصالحين؟
هل تقبلون بإرهاب أخوة الوطن المسيحيين حتى يتم تنفيذ مخطط تقسيم مصر؟
هل تقبلون بإلغاء الفن والأدب والغناء والموسيقى؟
هل تقبلون أن تغلق القاهرة "هوليود الشرق" بالضبة والمفتاح؟
هل تريدون تسليم سيناء مرة أخرى إلي إسرائيل؟
هل تريدون أن تكون الانتخابات القادمة هي الأولي والأخيرة؟
إذا كنتم تريدون كل هذا فلا تذهبوا للانتخابات أو أعطوا أصواتكم لمن يخدعوكم بشعارات دينية وهي حق يراد به باطل.
وأنا شخصيا سوف أسافر إلي مصر خصيصا للإدلاء بصوتي، وأدعو كل المصريين العاملين بالخارج أن يحضروا (إن استطاعوا) للإدلاء بأصواتهم، لأنني أشك أن الحكومة لديها وقت أو حتى رغبة لتنظيم الانتخابات البرلمانية بسفارات مصر بالخارج.
وإن لم تعط صوتك، فلا تلومن إلا نفسك.

الاثنين، 7 نوفمبر 2011

كيف برهن المسيحيون الأقباط في الحركة الوطنية وحدة النسيج الوطني

عندما اختلف سعد زغلول مع عدلي يكن حول "مشروع ملنر"، انفض السبعة المسلمون من حول سعد ولم يبق معه متمسكا بالحق الوطني غير واصف غالي وسينوت حنا. وعندما أنذر المحتل الإنجليزي سعد في 7 ديسمبر 1921بضرورة إيقاف نشاطه أو النفي، لم يرفض الإنذار غير مصطفي النحاس وويصا واصف وسينوت حنا وواصف غالي ومكرم عبيد.
وعندما حاول المحتل الإنجليزي دق الإسفين الديني بين المسلمين والمسيحيين، ارتفع على الوطن من ساحل البحر إلي أقصي الجنوب شعار "الدين للديان والوطن للجميع" وظهر  "الهلال مع الصليب"، ثم واجه المصريون المشروع الصهيوني مجتمعين، فامتزج الدم المسيحي مع الدم المسلم على أرض مصر. وهكذا لعب المسلمون والمسيحيون الأقباط دورهم في الحركة الوطنية في مواجهة المحتل وفي الذود عن الوطن وأثبتوا وحدة النسيج الوطني على مدى القرن الماضي.
وكان مكرم عبيد باشا (25 أكتوبر 1889 - 5 يونيو 1961) الذي وُلد لعائلة من أشهر العائلات المسيحية القبطية بمحافظة قنا بصعيد مصر، ودرس القانون في أكسفورد، أحد أهم المفكرين المصريين المقربين من الزعيم سعد زغلول باشا وأشهر الخطباء في التاريخ السياسي المصري الحديث الذين لعبوا دورا محوريا في الحركة الوطنية المصرية وفي مقاومة الاحتلال، وهو صاحب المقولة الشهيرة "إن مصر ليس وطناً نعيش فيه بل وطناً يعيش فينا" وهو القائل أيضا "اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصاراً، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين".
وقد كان من الطبيعي - وهذا شأنه - أن تقربه سلطة الاحتلال، فعينوه سكرتيراً خاصا للمستشار الإنجليزي لوزارة العدل طوال مدة الحرب العالمية الأولى، ولكنهم استغنوا عنه عندما كتب رسالة في معارضة المستشار الإنجليزي "برونيات" شارحاً فيها مطالب الأمة المصرية وحقوقها إزاء الإنجليز، فغادر منصب سكرتير المستشار الإنجليزي لينضم للثورة دون أن يدعوه أحد،. وعمل في مجال الترجمة والدعاية في الخارج ضد الحكم والاحتلال الإنجليزي وكان له دعاية نشطة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وانضم إلى حزب الوفد في عام 1919 ولما نُفي سعد زغلول ثار مكرم عبيد وقام بإلقاء الخطب والمقالات مما تسبب في القبض عليه ونفيه.
وكان المنفى هو فعلا النقطة المحورية في حياته، فكان يرى في نفيه مع سعد زغلول إضفاء لشرف الوطنية عليه وعلى زملائه، فقال لم نشعر في حياتنا أننا مصريون، عاشقون لمصر، بمقدار ما شعرنا في المنفى، ما أحسست طوال عمرى أن الوطن قريب إلى قلبي وفكري إلا عندما أبعدوني عنه في سيشل، فكانت أداة الفصل هي هي أداة الوصل ووصف علاقته بسعد زغلول في المنفي بقوله “لعلى لم أعرف سعدا، ولم أعرف مبلغ حبى له ذلك الحب النادر الذى يغذيه القلب والعقل معا إلا عندما أتاح الله لي أن أخلو به في سيشل في انتظار قدوم إخوتنا من عدن، في تلك الفترة القصيرة الحلوة التي كان لها أثر حاسم في تطور فكري والتي مازالت أعدها كحقبة من أهم حقبات عمرى، في تلك الفترة علمني سعد أن أحبه وأحترمه”
وعندما توفي سعد أصبح مصطفي النحاس باشا رئيسا لحزب الوفد ومكرم عبيد باشا سكرتيرا للحزب. وفي عام 1928 عندما‏ ‏شكل‏ ‏النحاس‏ باشا ‏وزارته‏ ‏عين‏ ‏مكرم‏ باشا ‏وزيراً‏ ‏للمواصلات‏، وفي عام 1935 أصبح سكرتير عام الوفد فكان من أبرز أعضاء الحزب والجبهة الوطنية وأكثرهم شعبية. وبعد معاهدة 1936 عُين مكرم عبيد وزيراً للمالية، وشارك في الوزارات الثلاثة التي تشكلت برئاسة كل من أحمد ماهر والنقراشي في عام 1946.
ونذر مكرم باشا - الذي عمل بالمحاماة - وقته كله للدفاع عن المقبوض عليهم في تهم سياسية، ولا زالت أصداء مرافعاته معروفة في تاريخ المحاماة في مصر، وقد اُختير نقيباً للمحامين ثلاث مرات وكان هو الذي قام بالدفاع عن عباس العقاد حين اتهم بالسب في الذات الملكية، وكان الرجل الوحيد - بجانب والده - الذي شيع جنازة حسن البنا مؤسس ومرشد جماعة الإخوان المسلمين بعد أن منع البوليس السياسي آنذاك الرجال من المشاركة في الجنازة.
وبقى مكرم عبيد باشا مقاتلا لمصر حتى بعدما أزاحه فؤاد سراج الدين باشا -  بمعاونة زينب الوكيل هانم - من قيادة حزب الوفد، ليصبح الطريق ممهدا لفؤاد سراج الدين في خلافة النحاس، فأسس بعد خلافه مع النحاس حزب الكتلة الوفدية كما ألف الكتاب الأسود واتهم النحاس باشا بالفساد وتلقي الرشاوى وعدم مراعاة مصالح الشعب، واعتقله النحاس باشا أثناء الحرب العالمية الثانية.

السبت، 5 نوفمبر 2011

أولويات إصلاح السياسة الضريبية: تطبيق الضرائب على الأرباح الرأسمالية والقيمة المضافة والضرائب التصاعدية على الدخل والمرتبات المستفزة وإلغاء الضريبة العقارية

اتبعت الحكومة الأخيرة للنظام السابق - كسابقاتها - سياسة ضريبية غير عادلة تعتمد أسلوب الجباية الذي عبرت عنه الضريبة العقارية الجديدة التي أدخلتها كأسلوب لتحقيق زيادة في إيرادات الدولة وتمويل أعمالها بصرف النظر عن الخلل في توزيع الثروة. فبينما عاني أكثر من 40% من المصريين من الفقر - أقل من دولارين في اليوم - فقد أظهرت هذه الحكومة على مدى سنوات ولايتها نقصا في الإحساس باحتياجات الطبقات المتوسطة والفقيرة، وانحيازا هائلا - وصل إلى الفساد - للطبقة الاجتماعية العليا التي أغدقت عليها العطايا من أملاك الدولة وطبقت سياسة ضريبية تتجاهل محاسبتهم ضريبيا على الأرباح الرأسمالية الهائلة التي حققوها بغير حق، وتمنع وصول نتائج النمو الاقتصادي إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة، وتؤدي إلى التضخم - الذي ينعكس على معدل نمو الناتج الوطني ويضخمه - وتكرس تركيز الثروة في الطبقة العليا وتزيد الهوة بين الغنى والفقر لتحتل مصر المركز 110 من 160 طبقا لمؤشر معامل توزيع الثروة GINI Coefficient، وهو ما أدى إلى تزايد انفجاري في العشوائيات بكل ما يعنيه للأمن والسلم الاجتماعي وللصحة العامة، ووفر كل ذلك الأرضية لانطلاق احتجاجات الشباب في 25 يناير، ولنجاح الثورة.
من هنا، تأتي ضرورة الإعلان عن إصلاحات رئيسية فورية في السياسة الضريبية ليس فقط لزيادة الموارد السيادية وتوفير التمويل لبرامج التنمية وغيرها، ولكن لتحقيق عدالة توزيع الثروة ولضمان وصول نتائج التنمية لكل طبقات الشعب وعدم اقتصارها على الشريحة الأغنى ولاسترداد حقوق الدولة في الأصول المبددة، وتتضمن أولويات إصلاح السياسة الضريبية:
1.       إلغاء ضرائب الجباية مثل الضريبة العقارية الجديدة غير المقبولة منطقيا وشعبيا.
2.       الانتقال من الضرائب على المبيعات إلى الضرائب على القيمة المضافة الأكثر كفاءة وعدالة.
3.       تطبيق الضرائب على الأرباح الرأسمالية المختلفة المطبقة بالفعل بالدول المتقدمة، وخصوصا تلك المتعلقة بالتصرفات في الأراضي التي خصصها النظام السابق لمحاسيب طفيليين فحولتهم بين ليلة وضحاها إلى بليونيرات، دون أداء حق الدولة والمجتمع.
4.       تطبيق الضرائب التصاعدية على الدخل وعلى المرتبات والمكافآت الاستفزازية للإدارة العليا المطلوب تطبيقها بالدول المتقدمة ضمن الإجراءات التصحيحية في أعقاب الأزمة المالية العالمية.
لا شك أن تطبيق إصلاحات رئيسية فورية في السياسة الضريبية سيعيد للسياسة الضريبية دورها كإحدى أهم أدوات الإدارة المالية والاقتصادية للدولة بدلا من استمرارها - كما حدث حتى الآن - كوسيلة للجباية، وسيؤدي - مع ذلك - إلى زيادة الموارد السيادية وتوفير التمويل لبرامج التنمية وغيرها، ولكن الأهم هو أنه سيكون مؤشرا بالجدية وبصدق النوايا في تحقيق أهداف الثورة بالإصلاح وتحقيق العدل الاجتماعي، وسيؤدي إلى استعادة فورية للثقة - ومن ثم التواصل - بين الدولة والشعب، كما أنه سيهدئ من المطالب والاحتجاجات الفئوية الجارية.
دكتور مدحت بكري