السبت، 22 سبتمبر 2012

اتقوا الله.. مصر تضيع ونحن في صراع على سلطة زائلة وجدل عقيم!

هل ننتظر حتى تحقق آلية ‘الفوضى الخلاقة’ وتقاطعات الاعتبارات الدولية والداخلية أهداف مشروع ‘الشرق الأوسط الجديد’؟!
أصبح الدور الأمريكي الصهيوني المحوري في إشاعة الفوضى في مصر - الذي لا يشير إليه أحد في الإعلام المصري - أمرا مسلما به قامت إدارة الرئيس أوباما بتنفيذه، بعد أن كان مجرد إعلان للنوايا أطلقه الرئيس جورج بوش ووزيرة خارجيته في 2003 وأكداه في 2004 و2006. وقد علمنا التاريخ أن تفرق المصريين أو الخيانة من الداخل كانا دائما وراء اختراق القوى الخارجية للسيادة المصرية، ولذلك فقد كان أخطر ما أنتجته ثورة يناير الحصانة التي اكتسبها الثوار الحقيقيون، ولكن اكتسبها بالتبعية دخلاء على الثورة - من عملاء لقوى خارجية مدسوسين في الخفاء أو حتى انتهازيين سعوا لاختطافها أو ركوب موجتها - دفعوا مصر، وما زالوا يدفعونها بلا هوادة، إلى حالة من السيولة وعدم الاستقرار دون إمكان لردعهم أو حتى سؤالهم باعتبارهم ثوارا فوق النقاش أو الحساب، فمارسوا بفجور ووقاحة - في حصانة تامة - العمالة للقوة الأعظم التي لا ترى مصر كدولة ولكن كجزء محوري من منطقة نفوذ، فأتاحت القوة الناعمة والأموال والتدريب وصنعت وقادت الفوضى الخلاقة ومارست الضغوط لحماية عملائها في مصر - وهربت العملاء الأمريكيين المقبوض عليهم -  وهي تقودنا الآن إلى حتفنا ونهاية مصر التاريخية، بل إلى تفجير كل المنطقة - بمساعدة هؤلاء العملاء - لتفتيتها وإعادة ترتيبها في شكل دويلات بلا حول ولا قوة لتحقيق نهائية الدولة الصهيونية. واليوم يشتت عملاء الصهيونية العالمية انتباهنا ويزعزعون استقرار مصر من خلف ستار الثورة بإشاعة حالة مميتة من الاستقطاب والجدل والصراع لتفريق المجتمع وتشتيت الجهود، فهل نستعيد الوعي ونلم الشمل ونأخذ حذرنا من عملاء الداخل قبل أن تضيع البلد؟!
ليس من الغريب أن تتزامن كل مظاهر الإثارة والتحريض والتهييج السياسي والديني التي تعيشها مصر، أو أن يتقاطع مخطط اليمين الأمريكي الصهيوني للمنطقة في إطار مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي تبنته الإدارة الأمريكية السابقة، مع مخططات التطرف الإسلامي والمسيحي ومع الإرهاب ومع الدور الذي لعبه ويلعبه طلاب سلطة فوضويون احتكروا الحقيقة واحترفوا الإثارة والتحريض، فالعلاقة بينهم ثابتة تاريخيا وإن تغيرت وتطورت أدوارهم، كما أن أجنداتهم معلنة والعنف والتدمير والتفتيت والتقسيم يحدث بالفعل من حولنا. وقد أدت غفلة الرئيس السابق عن اعتبارات الإطار الدولي للمنطقة وسوء تقديره لاعتبارات مصالح القوى الكبرى واستقرار الشراكة الاستراتيجية الأمريكية - الإسرائيلية، واعتماده على قوة علاقة الصداقة التي ربطته بالولايات المتحدة انطلاقا من التزامه بأهدافها وسياساتها، إلى استبعاده تماما لاحتمال تخلي الغرب عنه أو السعي إلى التخلص منه، خصوصا بعد الثقل الذي أضفاه بدء الرئيس أوباما لولايته بخطابه إلى العالم الإسلامي من القاهرة، فوقع في خطأ كبير عندما رفض وأسقط من حساباته في آن واحد خطة معلنة كاملة الأبعاد. وجاءت وقائع ما يسمى "الربيع العربي" - الذي يوشك إن يصبح في ظل غفلتنا "الخريف العربي" - لتؤكد على حقيقة أن اعتبارات مصالح الدول الكبرى تفوق بكثير اعتبارات الصداقة والولاء التي لا تدخلها الدول في حساباتها، وأن الثوابت الاستراتيجية لهذه الدول لا تتبدل بتغير الرؤساء.
إلا أن الغريب والخطير حقا هو أداء الدولة في مصر واقترابها الحثيث من الفشل، وغفلة المصريين عن توابع الفوضى التي يمكن أن تقود إليها هشاشة الهيكل الاجتماعي المتوتر بفعل مؤثرات داخلية وتدخلات خارجية، واستمرار رفضنا لحقيقة أننا - كجزء من منطقة نفوذ مهمة حباها الله بموارد طبيعية وموقع - محل لأطماع القوى الكبرى، بل وإغفالنا بعد التغيير - قيادة وأحزابا وشبابا - لحقائق الإطار الدولي الجديد لإدارة المنطقة الذي أعلنته الولايات المتحدة بوضوح، وللاتجاه الحثيث والمؤكد إلى إعادة ترتيب المنطقة استكمالا للمخطط طويل الأجل للحركة الصهيونية العالمية وتقاطعاته مع مصالح الدول العظمى، وتجاهلنا لمدلولات التطور في علاقة الجماعات الإسلامية والمسيحية بالولايات المتحدة التي قبلت مؤخرا مشاركة جماعة الإخوان في الحكم وإسرائيل التي أعلنت فجأة استعدادها للتعامل مع حكومات إسلامية، وللدور المخطط لقوى الداخل القيام به باستخدام التركيبة النفسية للمتطرف الإسلامي والمسيحي في تحقيق الدور الرئيسي لهذه الجماعات في تفجير المنطقة، ومن ثم إعادة ترتيبها بقرارات دولية في شكل دويلات غير قادرة على إثارة مشاكل لإسرائيل أو القوة العظمى في المستقبل القريب أو البعيد، وقلة حيلة المجتمع الذي حبس في قمقم الديكتاتورية لستين عاما ليفقد مناعته وليستجيب لمزيد من الإثارة والتحريض والتهييج السياسي والاستقطاب الديني - فلم يعد يعي بأن لحلزون الفوضى مدخل واحد ومخارج كثيرة فلا يعلم أحد إلى أين ينتهي الداخل إليه.
ولأن المخطط الدولي المعقد والخطير الذي ندير الموقف في إطاره يرتكز على حقيقة أن الشرق الأوسط هو منطقة لنفوذ القوى العظمى وأن إسرائيل هي مركز للسيطرة على هذه المنطقة، فإن ذلك يتطلب مواجهة المصريين لتداعيات وتحديات الموقف الراهن بكل فصائلهم مجتمعين ومتوافقين في إطار مصري وطني خالص وبغير استبعاد لأي طرف من الأطراف، حتى يستمدوا من اجتماعهم ووفاقهم ووحدة هدفهم قوة تتطلبها خطورة المرحلة وصعوبة المهمة. فلم يكن قيام إسرائيل حدثا وقع في أحد أيام العام 1948، ولكن عملية طويلة الأجل مطردة ومرنة وقابلة للتكيف مع الوضع السياسي الدولي خلال القرن الماضي المفعم بالأحداث والتغيرات الخطيرة للمنطقة والعالم، بدأت بالمؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية في بازل منذ 114 عاما، ومساهمتها في إنجاز اتفاق سايكس بيكو Sykes-Picot لعام 1916 كإطار دولي لتقاسم النفوذ والسيطرة في منطقة غرب آسيا بين حكومتي المملكة المتحدة وفرنسا وفي استغلاله لكسب المشروعية لمشروعها لإنشاء دولة ليهود العالم على أرض فلسطين بوعد بلفور Balfour Declaration بالموافقة على المشروع الصهيوني ونفي أية نية لتنفيذ الحلفاء وعودهم للعرب في مؤتمر باريس للسلام في عام 1917، وإسقاط "يهود الدونم" الذين قادوا "جمعية الاتحاد والترقي الماسونية" للخليفة العثماني السلطان عبد الحميد - الذي رفض طلب ثيودور هيرتزل Theodor Herzl والحاخام التركي والمحامي اليهودي الماسوني إيمانويل قره سو Emmanuel Kara Su منح الحركة الصهيونية فلسطين - في 1909، والعمل على نفي الخليفة العثماني الأخير السلطان عبد المجيد الثاني في 1922 وإنهاء الخلافة في 1923، ثم بالتمهيد والهجرة الجماعية إلى فلسطين وإنشاء المستعمرات، ثم بقرار التقسيم وإعلان الدولة، وتلتها مجموعة من العمليات العسكرية والحروب لخلق حقائق جديدة على الأرض، وتخللتها فترات للهضم واستيعاب التوسعات وخلق وعي دولي بواقع جديد مقبول عالميا.
أي أن الصهيونية العالمية قادت بتركيز وثبات لأكثر من قرن كامل - خلال فترة شديدة التعقيد من التاريخ الإنساني شملت حربين عالميتين وتغيرات كبرى في موازين القوى وحراكا سياسيا غير مسبوق وثورات شعبية بالمنطقة وصعودا لحظوظها استفادت منه وهبوطا استغلته لصالحها إلى أبعد الحدود - عملا مخططا ومنظما ودؤوبا ومكثفا لإنشاء وتأمين إسرائيل كوطن نهائي ليهود العالم أينما كانوا، وفعلت كل ما يلزم لاستيعاب النتائج، ولإعادة صياغة المفاهيم العالمية السلبية عن اليهود التي استقرت لقرون بالعقل المسيحي وبالضمير الإنساني، ولإدارة الضمير المسيحي بذنب ما عرف بالاضطهاد الأوروبي لليهود والمحرقة النازية، ولترسيخ عقيدة "ظلامية وعدوانية الإسلام" وشيطنة المسلمين في الضمير العالمي. هذا النمط من الرؤية طويلة الأجل والتركيز المستمر يتعارض تماما مع طبيعتنا المتطيرة وأسلوب عملنا بردود الأفعال هو ما يؤدي إلى تفاوت هائل بيننا وبينهم - فيما أسميه "طول الموجة العقلية" - يعيق "البصيرة" ويحرمنا من القدرة على قراءة وفهم المشروع الصهيوني طويل الأجل - الذي أنتجته عقول طويلة الموجة - وتتجاوز وحدته الزمنية عشر سنوات ويستغرق تحقيق أول أهدافه بإنشاء دولة في فلسطين ليهود العالم خمسين عاما، ومثلها - أو يزيد - لتحقيق هدفه الثاني بإعادة ترتيب الشرق الأوسط لإحكام السيطرة على منطقة ما بين النهرين، فيفقدنا "الوعي" ومن ثم تمتنع علينا القدرة على استيعابه والتعامل بفعالية معه أو التأثير على نتائجه.
كذلك، فمن المفيد أن نفهم كمصريين أن الحركة الصهيونية العالمية ليست بسبيلها طواعية إلى إهدار العمل الصهيوني الذي أنتجه التخطيط وساندته الإرادة وكرست له الموارد الصهيونية حول العالم لأكثر من مائة عام وربما يزيد، وأنها تعمل الآن لتكريس ما تم تحقيقه لتصل رحلة القرن الصهيونية التي بدأت في 1897 إلى نهايتها وأهدافها طبقا للمخطط بنجاح، كما لا يمكن أن تهدر الحكومة الصهيونية الأكثر تطرفا وتشددا في تاريخ إسرائيل ما تحقق فعلا أو أن تغفل ما بقي تحقيقه من أهداف الحركة الصهيونية مقابل توقيع معاهدة لا تحتاجها أصلا. وعلينا في المقابل أن نقدر أن موازين القوى التي أنتجتها مواجهات الصراع والتحالفات مع القوى العظمى لا يمكن مواجهتها بالانفعالات والشعارات أو باللاوعي وعدم الاكتراث، وإنما باستيعاب الحقائق على الأرض، وبعمل واقعي مخطط ومنظم ودؤوب ومكثف تسانده إرادة حديدية في ضوء هذه الحقائق.
ومع أن ما وصلنا إليه من أوضاع مزرية وما حققته الحركة الصهيونية العالمية من أهدافها المعلنة يثبت أن وعينا وتركيزنا وأداءنا لم يكونوا على المستوى المطلوب للمواجهة على مدى ما يزيد عن قرت كامل، فقد قادتنا طبيعتنا الحالمة التي تربط بين العدالة وطبيعة الحل المنشود والمنتظر للصراع مع إسرائيل - الرافضة المنغلقة - لأن ننتظر النهاية السعيدة بعودة الأرض السليبة وزوال إسرائيل "المزعومة" بأيدي مغاوير "الممانعة،" أو "في أسوأ الأحوال" بحل وسط بمبادرات "الاعتدال" ينهي الصراع "الافتراضي" - الموجود فقط في مخيلتنا - بتنازل فلسطيني كبير بالقبول بدولتين على حدود ما قبل يونيو 1967. هذه الرؤية الحالمة لانتهاء الصراع "الافتراضي" موجودة فقط في المخيلة العربية، فقد حسمته إسرائيل ومعها الغرب لصالحها بالحرب في 1967، ثم بتوقيع معاهدة سلام مع الطرف الأكثر قدرة على منافستها وإزعاجها وهو مصر في 1978، وربطت مصالحها عضويا بالقوى العظمى وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، التي أنهت إلى الأبد - بضغط صهيوني هائل - قدرة العراق على إزعاج إسرائيل بهزيمته في 2003، وتمزيقه تمهيدا لتقسيمه.
يفضح كل ذلك الأهداف المخفية للمخطط الصهيوني للمنطقة والنوايا الحقيقية وراء المماطلة الإسرائيلية وعدم توقيعها حتى الآن اتفاقا للصلح النهائي مع الطرف الفلسطيني المتلهف على الدولة بأية حدود وبأية شروط، فلم يكن الحل على حدود ما قبل يونيو 1967 مقبولا أبدا لإسرائيل التي كانت تسعى في الأصل وحتى النهاية إلى ما يعرفونه "بالدولة اليهودية" على "أرض إسرائيل" التي تتحقق فقط بإخراج غير اليهود من فلسطين التاريخية وربما أيضا بضم أجزاء جديدة من سوريا ولبنان تتيح لها السيطرة على مصادر جديدة للمياه وللثروة الأحفورية بالمياه الاقتصادية للدولتين، وهي أيضا أسباب قوية تفسر عدم توقيعها على معاهدة سلام مع سوريا المستعدة للتوقيع في جينيف، ولرفضها المبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت. وبالطبع فإن إسرائيل التي تسيطر تماما الآن على كل مصادر المياه السطحية لنهري الأردن والوزاني بالجنوب اللبناني والمياه الجوفية لفلسطين التاريخية - من خلال المستعمرات التي قامت بنشرها في الضفة الغربية فوق مصادر المياه الجوفية بحيث تتطابق تماما خربطتي المستعمرات والمياه الجوفية  Aquifers- تسعى الآن للسيطرة أيضا على الثروة الأحفورية المكتشفة بشرق البحر المتوسط، بعد أن نجحت في إقناع القوة الأعظم بدورها - كحليف طبيعي مستقر - في خدمة الأهداف الأمريكية في منطقة نفوذها وتسهيل سيطرتها على ثرواتها.
وإذا كان معهد الدراسات الجيولوجية في الولايات المتحدة USGS" قد أعلن أن إجمالي المخزون الأحفوري في جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط بنحو 3,4 مليار برميل من النفط الخام ونحو  9700 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهو يوازي المنابع الغازية المستثمرة الآن في مناطق متفرقة من العالم، وأن مصادر النفط والغاز شرقي المتوسط تقدر بنحو 1,68 مليار برميل من البترول ونحو 3450 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عالي الجودة، كما أن هناك منابع غير مكتشفة للنفط والغاز في حوض النيل بمصر تقدر بنحو 1,76 مليار برميل من النفط، ونحو 6850 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عالي الجودة، فقد قلب الحقل الغازي الهائل - الممتد على شكل حرف "L" في المياه الاقتصادية التونسية والليبية والمصرية والفلسطينية والإسرائيلية واللبنانية والسورية والقبرصية - الاعتبارات الاستراتيجية التعبوية والسوقية للقوى العظمى ولدول الإقليم رأسا على عقب، حيث يخلق هذا الاكتشاف الأحفوري الكبير المزيد من التعقيدات في المواقف والأوضاع السياسية للمنطقة ويغير الحسابات ويفضح أسباب إطلاق القوة الأعظم - بمساعدة الدول الغربية وبتحريض مباشر من الصهيونية العالمية - لآلية الفوضى الخلاقة لزعزعة استقرار المنطقة، وإشعال حروب طائفية لإحداث تغيرات جيوبولتيكية تغير ملامح خريطة المنطقة وتتيح وضعهم اليد على الثروات المكتشفة، بحيث أصبحنا نقف على بعد أيام معدودة من إعلان ولادة "خليج عربي جديد" في حوض البحر الأبيض المتوسط، وليسهل لإسرائيل حرمان سوريا ولبنان من استغلال حصصها الواقعة في مياهها الإقليمية ولأمريكا بسط نفوذها في المنطقة على شكل حرف “L" بالمياه الاقتصادية، ويضمن الهيمنة والاستحواذ على الحقل كله. 
ويعتبر "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي أعدته - أو شاركت في إعداده - الحركة الصهيونية العالمية وقدمه الزعيم الصهيوني المعاصر برنارد لويس Bernard Lewis للكونجرس الأمريكي في ثمانينات القرن الماضي، وطوره Richard Perle ومجموعة المستشارين الصهاينة الأمريكيين في تسعينات القرن الماضي وتبنته الإدارة الأمريكية السابقة، والذي يهدف إلى تفتيت وتقسيم دول المنطقة وإعادة ترتيبها تطويرا طبيعيا - وفي أغلب الظن نهائيا - لضبط تقدم المشروع الصهيوني "طويل الأجل" لإنشاء الدولة اليهودية، ويمثل إطارا دوليا جديدا - بديلا لاتفاق سايكس بيكو لإدارة المنطقة في الألفية الجديدة - يعكس بشكل أكتر واقعية الأوضاع العالمية الجديدة وخصوصا الدور الأمريكي في العالم والمنطقة ونفوذ اليمين الأمريكي الصهيوني وتقاطعات المصالح الأمريكية والإسرائيلية والحقائق وموازين القوى على الأرض، ويستهدف الوصول إلى حل نهائي للصراع العربي الإسرائيلي يكرس ما تحقق من الأهداف الصهيونية ويحقق "نهائية إسرائيل" بتفريغ محيط الدولة الصهيونية من الدول القادرة على تقويض أمن "الدولة اليهودية" أو منافستها على كل موارد المنطقة في المستقبل القريب أو البعيد.
وقد مثل الإطار الدولي القديم - سايكس بيكو - في الماضي، ويمثل الإطار الدولي الجديد - الشرق الأوسط الكبير - الآن، الحدود التي لا يسمح لدول المنطقة - بخلاف إسرائيل - بتخطيها والتي أفرزت كل النتائج على الأرض، وأدت حتى الآن إلى إنفاذ المخطط الصهيوني، وتنذر ببسط السيادة الإسرائيلية "العملية" - التي ربما تتطور في وقت لاحق لا قدر الله إلى سيادة "فعلية" - على المنطقة من النيل إلى الفرات. ولذلك، فمن المهم - حتى يمكن تحقيق مواجهة مخططة وفعالة تساندها إرادة حديدية على النمط الصهيوني وبنفس الأسلوب - أن نتعامل بموضوعية وواقعية مع حقيقة أن العالم الخارجي ما زال يرى هذه المنطقة - ومن بينها الدولة المصرية - كمنطقة نفوذ للدول العظمى تسيطر عليها وتقرر في شأنها القوة الأعظم في كل مرحلة، وأن علينا لذلك - حتى يمكننا إدراك الدور النسبي لقوى الداخل والخارج في القرار المصري وحتى يمكننا استعادة سيطرتنا على مقدراتنا - أن نقوم باستعراض وتحليل حقائق ومعطيات الإطار الدولي للمنطقة وتشابكات وتفاعلات أهداف واستراتيجيات ومخططات وأدوات القوى الدولية والمحلية خلال القرن الماضي أو يزيد:
·         كان لثورة 1952 طموحا عظيما لتنمية مصر وتحويلها إلى قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية فاعلة على المسرح الإقليمي. وكان هذا من أسباب وأهداف الثورة التي قام بها الجيش ضد الملك، إلا أن أنها لم توفر العمق والنضج اللازمين لترجمتها إلى استراتيجيات وآليات وبرامج لتحقيق قدرات ومن ثم نتائج اقتصادية أو عسكرية محددة، حيث اقتصرت الرؤية على افتراض خاطئ بأن القوة الاقتصادية والعسكرية تتحقق بمجرد إرسال البعثات للخارج وتكوين الأصول بشراء المصانع والمعدات للتصنيع أو الدبابات والطائرات والأسلحة والذخائر للتسليح وتشييد المباني والمدرجات والفصول للتعليم، بينما القياس الحقيقي يكون بمعاملات كفاءة الاستخدام ومؤشرات الأداء المبنية على كفاءة إدارة المنظومة الصناعية أو التعليمية أو العسكرية.
·         توالى عل مصر - منذ 1952 - ثلاثة رؤساء دكتاتوريين أحكموا قبضتهم على مصر وحكموها لستين عاما بعد الرئيس محمد نجيب الذي سرعان ما غدر به وعزل وأخرج من التاريخ، كان أولهم الرئيس عبد الناصر الذي كان زعيما وطنيا بالفطرة، ولكنه طبق المعادلة الناصرية: «مصر = جمال عبد الناصر» وانشغل بزعامته عن مصلحة مصر أو تصور أنها تحققها، وقادته زعامته إلى صراع مميت مع القوى العظمى فأضاع مصر. وكان ثانيهم الرئيس السادات وطنيا أصيلا ذو رؤية وفطنة، حرر البلد من الاحتلال الإسرائيلي، وخانه ذكاؤه عندما أعاد السلفيين إلى المسرح فقتلوه، ويجاهرون اليوم "بصحة قتله في سياق المرحلة." وكان الرئيس مبارك - ثالث الرؤساء وأسوأهم - شخصا محدودا متسلطا لا صديق له حولته أنانيته إلى طاغية فاسد حكم بدستور معيب، مكن الفساد وأظهر على مدى سنوات حكمه نقصا في الإحساس باحتياجات الطبقات المتوسطة والفقيرة، وانحيازا هائلا - وصل إلى الفساد - للطبقة الاجتماعية العليا التي أغدق عليها العطايا من أملاك الدولة وطبق سياسة ضريبية تتجاهل محاسبتهم ضريبيا على الأرباح الرأسمالية وتكرس تركيز الثروة وتزيد الهوة بين الغنى والفقر.
·         ساندت ثورة 1952 - كحركة ثورية - الحركات التحررية لكل الشعوب حول العالم منذ البداية، ووجهت انتباها خاصا لمساندة الشعب الفلسطيني والحركات التحررية لكل الشعوب الإفريقية والعربية التي رزحت تحت الاستعمار القديم وأسفرت في حينه عن قفزة هائلة في شعبية الرئيس عبد الناصر محليا وإقليميا وحولته إلى شخصية عالمية أسطورية، ولكنه أدى أيضا إلى اعتباره نظاما معاديا للقوى العظمى وأسفر عن إجراءات مضادة أهمها تسريع دعم إسرائيل عسكريا بتوفير السلاح المتطور والتكنولوجيا المتقدمة بما فيها التكنولوجيا النووية العسكرية، ثم العمل العسكري المشترك والعدوان الثلاثي في 1956.
·         لم يكن النظام الجديد في مصر مؤهلا لتطوير الأهداف والاستراتيجيات الناضجة المتسقة مع المصالح المصرية على المديين القصير والطويل، فأدت القفزة الهائلة في شعبية الرئيس عبد الناصر عربيا بعد عام 1956 إلى تحول في اهتمامات وتوجهات النظام في مصر لخدمة أهداف المشروع العروبي الناصري وتراجع الاهتمام بالمصالح المشتركة مع الدول الإفريقية، بما في ذلك المصالح الحيوية مع دول المنابع في حوض النيل. وفي نفس الوقت الذي كرس فيه الرئيس الوقت والجهد والمال لدفع مفهوم القومية العربية تأسيسا على وحدة اللغة والدين، لم تحظ الدول الإفريقية أو دول حوض النيل أو حتى إثيوبيا - التي انتمت أغلبتها المسيحية للكنيسة القبطية ومسلموها للأزهر - وهو ما كان من الممكن أن يؤسس - مع وحدة الجغرافيا والمصالح - لعلاقات خاصة للغاية مع مصر، عوضا عن تباعدها الحثيث ثم عملها الدؤوب مع إسرائيل ضد مصالح مصر المائية وعلاقاتها القارية.
·         تصاعد المد الناصري في المنطقة العربية بعد نجاح النظام في تحويل الهزيمة إلى انتصار في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وتسارع المشروع العروبي وتكرس بإعلان الوحدة المصرية السورية في 1958، التي أدت إلى تطلع شعوب المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج للرئيس عبد الناصر وتنصيبه زعيما شعبيا لكل العرب ووكيلا للتغيير في المنطقة، وأنتجت المشاعر الوحدوية التغيير في العراق وأوشك على الانضمام للجمهورية العربية المتحدة، وهو ما رفضته الدول الغربية والحركة الصهيونية التي رأت فيه تقويضا لنفوذها في المنطقة ولسيطرتها على ثرواتها ومصادر الطاقة لصناعاتها وجيوشها، فتآمرت لإسقاط الرئيس عبد الناصر وتقويض الوحدة العربية، ونجحت في تدبير الانقلاب السوري والانفصال، وهو ما مثل هزيمة شخصية للرئيس عبد الناصر وتقويضا لمشروعه الوحدوي.
·         جاء الانقلاب اليمني المفاجئ ليعطي الرئيس عبد الناصر فرصة لإنقاذ ماء الوجه واستعادة الحياة لمشروعه العروبي، سارع إلى اغتنامها دون تقدير كاف لمحاذيرها وتكلفتها والمكاسب منها في الإطار الدولي القائم، فوقع في الفخ وأرسل الجيوش لدعم "الثورة" اليمنية الوليدة في مواجهة مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية "الشقيقة"، فاستنزف الثروة - > مليون دولار يوميا - وزعزع العقيدة العسكرية للجيش وحوله إلى قوات من المرتزقة منهارة المعنويات ناقصة الاستعداد، وخرج من اليمن ليستدرج مباشرة إلى حرب 1967 الكارثية التي اتخذ كل قراراتها الرئيس شخصيا - بمعزل عن الشعب والقوات المسلحة - لتلحق بمصر هزيمة مهينة كاملة الأبعاد ضاعت فيها الأرض والعرض، وقضى فيها عشرات الآلاف من رجال مصر ودمر كل السلاح، وكانت أهم دروسها ضرورة وعينا بقدراتنا وبالإطار الإقليمي والدولي المحيط بنا، وخطورة الأجندات الخاصة للحاكم حتى لو كان زعيما نثق به.
·         فاقت قدرات المقاتلة الإسرائيلية في حرب يونيو 1967 عشر مقاتلات مصرية، وظن الرئيس عبد الناصر أن العالم كله - وليس إسرائيل - قد هاجم مصر، على خلاف ما حدث في حرب أكتوبر 1973. وفي التنمية، توازت مراحل التطور في مصر - التي بدأت بالتصنيع ثم الخصخصة ثم الانفتاح والعولمة - معها بالدولة الصهيونية. وإذا كانت نقطة البداية قد تميزت في مصر فقد تميزت الإدارة في إسرائيل، ولذلك جاءت النتائج لصالح الدولة الصهيونية بشكل حاسم، وهو ما يسجل على النظام في مصر.
·         لم يستثمر النظام المصري الجديد في علاقات وشراكات مستدامة تحقق المصالح المشتركة وتزيد قوة الارتباط على مستوى القارة أو حتى في نطاق حوض النيل الحيوي، بما في ذلك إثيوبيا التي تنبع منها تسع أعشار مياه النيل التي تصل دولة المصب، فأسفر تحول اهتمامات وتوجهات النظام في مصر إلى الدول العربية حصريا واستمرار إهماله للمصالح المشتركة مع الدول الإفريقية، بما في ذلك المصالح الحيوية مع دول المنابع في حوض النيل، عن تراجع العلاقات مع الدول الإفريقية ودول حوض النيل وتباعدها حتى تم تغريب مصر عن أفريقيا . واليوم، لا يجد الأخوة الأفارقة في دول المنابع أثرا لمصالح مشتركة مع مصر أو حتى دورا لها في حياتهم، فلم توفر مصر - لعشرات السنين - دعما فنيا تستطيعه أو مشاركة أو تكاملا مع دول الإقليم لتفيد وتستفيد، حتى بعد أن أتضح أن مشكلة التضخم السكاني ستصيب مصر بالفقر المائي للمرة الأولى في التاريخ.
·         لم تكن مصر أبدا في موقف أشد حرجا مما هي فيه اليوم في الإطار الدولي الجديد، تحيط بها من كل اتجاه أخطار وأطماع غير مسبوقة، سببتها سياسات النظام القاصرة تجاه المحيط الإقليمي. ففي الجنوب يستمر التآمر على وحدة ما بقي من السودان بعد انفصال الجنوب لتفتيته وتقسيمه، وتنازع دول حوض النيل - متعددة الموارد المائية - السودان ومصر - الصحراوية غير المطيرة على مياه النيل التي تشكل المصدر المستدام الوحيد للحياة فيها، خصوصا بعد أن أصابت مشكلة التضخم السكاني مصر بالفقر المائي للمرة الأولى في التاريخ - بينما رأتها الحكومة دائما مجرد مشكلة اقتصادية واجتماعية - وانخفض نصيب الفرد انخفاضا كارثيا من ~4000 م3/سنة في 1950 إلى ~700 م3/سنة في 2010، فحل بها الفقر المائي (< 1000م3/سنة) ويستمر التراجع مع الانفجار السكاني بحيث يتهددها الآن الجفاف والعطش والمجاعات، أو حروب مياه مدمرة. وفي الشرق أضيفت الأطماع الحمساوية في أرض مصر - برعاية إيرانية وإسرائيلية وأوربية وأمريكية وإخوانية - إلى الحالة الصومالية وإلى ضغوط وأطماع إسرائيل، التي ما زالت تمثل القاسم المشترك لمشاكل مصر الإقليمية بالرغم من اتفاق السلام الموقع بينهما.
·         كأنما لنزيد مشاكلنا تعقيدا، أسأنا الاختيار عندما انفجرنا سكانيا في ظل نظام غافل، فاستمر التكدس السكاني والتزاحم في الأرض القديمة - أرض الأجداد والأحفاد - فتآكلت الأرض الطيبة أمام التوسع العمراني العشوائي، بحيث أصبحت دلتا النيل للناظر من السماء كرئة أصابها درن! وضاق بنا الوادي فاتجهنا إلى قلب الصحراء وتركنا الساحل حيث الرطوبة وحيث الأمطار - على قلتها - وبينما تعاني مصر من الفقر المائي الذي سببه الانفجار السكاني، وجهنا مياه النيل بالرفع بإحدى أكبر محطات الضخ إلى توشكى الأكثر قسوة وقحولة وهشاشة في العالم بدلا من أن توجهها إلى الساحل الشمالي الغربي وسيناء بالانسياب بالانحدار الطبيعي لاستكمال الري بمياه الأمطار القليلة المتساقطة على الشمال التي لا تكفي حصيلتها الزراعة المنتظمة فتضيع - مع ما يضيع من مخزون المياه في صحراء توشكى - وتطرح من حصيلتنا المائية عاما بعد عام، وتبقى سيناء مطمعا بغير سكان يدرؤون عنها الغزاة والطامعين.
·         لم تقدم التنظيمات الدينية المسيسة والأحزاب السياسية - التي انشغلت بالصراعات بداخلها وفيما بينها بعد أن أعادها الرئيس السادات مع إطلاقه للحزب الوطني الديموقراطي - بديلا فاعلا أو مقبولا للحزب الحاكم الذي ترأسه والذي ظفر منفردا بالأصول والأموال التي منحها النظام للحزب الواحد الذي تغير اسمه دون مضمونه على مر السنين من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي، فاستمرت شموليته وبقي مكبلا بالفكر المَحدود والمٌحَدِد لأعضاء انتهازيين سيطروا عليه حتى بداية العقد، فمنع انطلاق البلد وأنتج طبقة من أثرياء جدد - لا تعرف مصادر ثرواتهم ومشكوك في التزامهم المالي للدولة ولا تحاسبهم الدولة ولا تقتضي حقوق الناس منهم - ضاعفوا حجم الهوة بين الغنى والفقر فتعاظم التفاوت الاقتصادي لحدود أثارت السخط العام وأصبحت تهدد الأمن الاجتماعي وتنذر بانفجار. وكأنما لم يكفي الحاكم كل التوتر الاجتماعي الذي أنتجته الهوة بين الغنى والفقر فتناسى درس الثورة العرابية واتجه إلى توريث الحكم، فأصبحت الدعوة إلى التغيير في مصر قاسما مشتركا بين فرقاء مختلفين لا تجمعهم رؤية مشتركة، وانطلقت ثورة 25 يناير التي قادها الشباب المتعلم لتوقظ مصر من غيبوبة مصطنعة.
·         انتقلت تبعية جماعة الإخوان المسلمين من بريطانيا - التي تحالفت وتعاملت معها اعتبارا منذ ثلاثينات القرن الماضي - إلى الولايات المتحدة. ووفقا للدكتور جون كولمان Dr. John Coleman عميل المخابرات البريطانية ومايلز كوبلاند Miles Copeland، مسؤول وكالة المخابرات المركزية في مصر في عهد عبد الناصر ومؤلف كتاب "لعبة الأمم The Game of Nations"، فقد عملت جماعة الإخوان المسلمين مع وكالة المخابرات المركزية ضد النظام المصري في عهد عبد الناصر خلال الخمسينات والستينات، ووفرت لها هذه العلاقات مصدرا غير محدود للأموال التي شكلت جزءا مهما من قدراتها على استقطاب التأييد لدعوتها في يلد يتزايد فيه الفقر. وتوثقت علاقة جماعة الإخوان والجماعات الأصولية بالولايات المتحدة مع بدء الحرب الإسلامية التي شنتها وكالة المخابرات المركزية على السوفييت في أفغانستان (1979-1989) وعرف الأصوليين فيها باسم "الأفغان العرب". ولقيت الجماعة المساندة وتلقت التمويل من المملكة السعودية، التي وقعت في دائرة النفوذ البريطاني - وفيما بعد الأمريكي - والتي يسعى حكامها الوهابيون إلى خلافة إسلامية أصولية سلفية.
·         كان من نتائج عمل الجماعة مع جهات خارجية أن قام جمال عبدالناصر في 1964 باعتقال عدد كبير من الإخوان - من بينهم سيد قطب وغيره من قيادات الإخوان - بدعوي اكتشاف مؤامرتهم لاغتياله. وأعدم سيد قطب مفكر الجماعة في عام 1966 ومعه خمسة من قيادات الإخوان الذين ذاقوا خلال تلك الفترة أنواع من التنكيل والتعذيب داخل السجون مما أدى إلى مقتل ما يقرب من 350 إخواني جراء التعذيب. وقد أدى ذلك إلى هجرة معظم قيادات وكوادر الجماعة إلى السعودية والخليج حيث تلقوا دعما ونشروا دعوتهم بين المواطنين وأعضاء الجاليات المصرية.
·         جاء نجاح الفصيل القطبي المتشدد في السيطرة على جماعة الإخوان المسلمين - التي خرجت من عباءتها جميع التنظيمات السلفبة المتشددة بما فيها الجهاد والتكفير والهجرة وحتى القاعدة - ليؤكد عقيدة راسخة لجماعة سياسية - وليس دينية دعوية - تفرض فهمها هي للشريعة - التي اختلف فيها الفقهاء - على المجتمع وتفرق بين أبناء الوطن الواحد، وتظهر بوضوح في شعاراتها الدائمة - - السيفان والآية الكريمة "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ"؛ وشعائرها - - القسم بالولاء للجماعة والسمع والطاعة للمرشد؛ وممارساتها - - العنف والاغتيالات ثم الإنكار بمبدأ التقية على مدى سنوات قوتها وضعفها؛ وتنظيماتها السرية والعسكرية  وميلشياتها الشبابية التي أنشأتها لامتلاك الأرض وفرض الإرادة.
·         بالرغم من تبني الرئيس السادات سياسة مصالحة مع القوى السياسية المصرية وإجرائه لإصلاحات سياسية تعززت بعد حرب أكتوبر 1973 وتطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي، فقد أبقى الإخوان - وتنظيمات سلفية انبثقت عنهم - على سريتهم ولم يتخلوا عن استعدادهم للجوء للعنف للاستيلاء على السلطة وتحقيق أهدافهم السياسية، فقام الإسلام السلفي باغتيال السادات - الذي أمنه وأمن له - في 6 أكتوبر 1981، وعاودت الجماعات الإسلامية السلفية نشاطها الذي مارسته في مصر اعتبارا من الأربعينات من القرن الماضي، واستمرت وتسارعت وتنوعت أعمال العنف السياسي والإرهاب التي استهدفت المثقفين والمختلفين معهم وحتى ضيوف مصر، وفي كل مرة قابلت الحكومة عنف الجماعة والجماعات المنبثقة عنها والمنشقة منها وتلك المبنية على فكرها المتشدد بعنف مقابل وإجراءات استثنائية تحملها المجتمع كله، وتحولت حياة المصريين إلى حالة طوارئ دائمة، واستمر تمكن الدكتاتورية من البلد.
·         اتبعت حكومات الرئيس السابق المتعاقبة - في إطار سياستها غير العادلة لخلق طبقة رأسمالية لقيادة الاقتصاد - سياسة ضريبية غير عادلة تعتمد أسلوب الجباية الذي عبرت عنه الضريبة العقارية الجديدة التي أدخلتها كأسلوب لتحقيق زيادة في إيرادات الدولة وتمويل أعمالها بصرف النظر عن الخلل في توزيع الثروة. فبينما عاني أكثر من 40% من المصريين من الفقر - أقل من دولارين في اليوم - فقد أظهرت هذه الحكومة على مدى سنوات ولايتها نقصا في الإحساس باحتياجات الطبقات المتوسطة والفقيرة، وانحيازا هائلا - وصل إلى الفساد - للطبقة الاجتماعية العليا التي أغدقت عليها العطايا من أملاك الدولة وطبقت سياسة ضريبية تتجاهل محاسبتهم ضريبيا على الأرباح "الرأسمالية" الهائلة التي حققوها بغير حق، وتمنع وصول نتائج النمو الاقتصادي إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة، وتؤدي إلى التضخم - الذي ينعكس على معدل نمو الناتج الوطني ويضخمه - وتكرس تركيز الثروة في الطبقة العليا وتزيد الهوة بين الغنى والفقر لتحتل مصر المركز 110 من 160 طبقا لمؤشر معامل توزيع الثروة GINI Coefficient، وهو ما أدى إلى تزايد انفجاري في العشوائيات بكل ما يعنيه للأمن والسلم الاجتماعي وللصحة العامة، ووفر كل ذلك الأرضية لانطلاق احتجاجات الشباب في 25 يناير، ولنجاح الثورة في إسقاط رأس النظام.
·         على مدى أربع عقود، منذ أعاده الرئيس السادات إلى المسرح السياسي، نجح الإسلام السياسي عالي التنظيم في استخدام مصادر خارجية هائلة للمال السياسي لاستقطاب المجتمع - خصوصا الريفي والعشوائي - اجتماعيا ودينيا بخلق مظلة رعاية اجتماعية وصحية وتعليمية موازية تديرها كوادر منظمة لتحقيق السيطرة على القطاعات المجتمعية الفقيرة التي زاد تهميشها في ظل النظام السابق. كما كثف الإسلام السياسي - وبصفة خاصة جماعة الإخوان المسلمين - اتصالاته بالقوى العظمى والإقليمية للاستعداد للحظة الصراع الفعلي مع النظام الفاسد القائم ذو التوجهات الطبقية الرأسمالية.
على هذه الأرضية المحبطة التي اختلط فيها الاستقطاب الديني والاجتماعي بشعور المصريين بالاستبداد والقهر والظلم والفقر والحرمان وقلة الحيلة، جاءت الخطة التي سبق أن عرض نسختها الأولى الزعيم الصهيوني المعاصر برنارد لويس في1983 أمام جلسة سرية بالكونجرس الأمريكي بتفاصيل تشمل خرائط تقسيم دول المنطقة، ثم طورتها مجموعة من المستشارين الصهاينة الأمريكيين "Study Group on a New Israeli Strategy Toward 2000" بالاتفاق مع نتانياهو في 1996 لحساب "معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة The Institute for Advanced Strategic and Political Studies" أنتجت تقريرا بعنوان "A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm" أصبح جزءا من استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة. الخطة كبيرة وخطيرة وحقيقية وفعالة ومصر هي جائزتها الكبرى ويلعب الداخل المصري فيها دورا رئيسيا، وهي تثير فتنة بين الناس توشك على حرق الأرض ومن عليها وما عليها، وهي ليست نظرية، فالأجندات معلنة والعنف والتدمير وتفتيت وتقسيم المنطقة العربية يجتاح دولها ويتسارع الآن، وقد بدأ فعلا بالعراق والسودان. وبدأ التطبيق للاستراتيجية الجديدة المعلنة:
·         أعلن الرئيس جورج بوش في نوفمبر 2003 خلال حديثه للوقف الوطني للديمقراطية National Endowment for Democracy - المعروف اختصارا "NED" - وهي المناسبة التي يضع فيها الرئيس الأمريكي مخطط إدارته العام للشرق الأوسط - مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يهدف لإعادة ترتيب المنطقة، ثم بإعلانه في فبراير 2004 تخصيص 40 مليون دولار لدعم وسائل إعلام وجمعيات عربية تعمل كقنوات اتصال شعبية، ومن ثم تقديمه المشروع في يونيو 2004، لقمة مجموعة الثمانية بجورجيا تحت اسم مبادرة الشرق الأوسط الكبير لتصدير الديمقراطية إلى العالم العربي "Greater Middle East Initiative-GMEI" على غرار مشروع هلسنكي لتصدير الديمقراطية إلى الاتحاد السوفييتي.
·         في 15 أغسطس 2005، في خرق للاتفاقية الأمنية مع مصر بقرار من جانب واحد ودون ترتيبات أمنية مقابلة، انسحبت إسرائيل من قطاع غزّة، وفي 12 سبتمبر 2005، أتمت إسرائيل إخلاء المستعمرات وأنهت الوجود الاستعماري الإسرائيلي في قطاع غزة وأعلنت إنهاء الحكم العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة. ويعبر هذا القرار - المتناقض مع السياسة المستقرة لحكومة شارون المتشددة التي مارست الاستيلاء على أراضي السلطة الفلسطينية - عن سوء نية مبيت، فالقطاع - وهو شريط ضيق بالمنطقة الجنوبية بطول 40 كم على الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط وتبلغ مساحته 360 كم مربع - يمثل ثروة عقارية هائلة كما أنه يعطي إسرائيل حقوقا على المياه الاقتصادية للساحل. يكشف كل ذلك الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية بالاستيلاء عليه بالكامل مستقبلا ونقل سكانه للأراضي المصرية.
·         كان الهدف الحقيقي للانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة هو إخلاء 15 كيلومترا من الحدود المشتركة - التي يقع عبء حمايتها على جانبي الحدود على طرفي معاهدة السلام - وهو ما انتهى إلى خلخلة واستباحة الحدود المصرية واجتياح عشرات الآلاف من الغزاويين لها، ثم اختراق متطرفين إسلاميين للحدود المصرية عبر مئات من الأنفاق - يخضع جانبها الفلسطيني لسيطرة كاملة لحركة حماس الإخوانية التي تصدر تراخيص إنشائها وتحصل رسوم المرور والجمارك عليها - لزعزعة الاستقرار وإشاعة الفوضى في مصر تمهيدا لنقل الغزاويين إلى سيناء. لا شك أن هذا الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب يعطي لمصر الحق الكامل في نشر كل ما يلزم من قوات من جانب واحد دون أي حاجة إعادة التفاوض - كإجراء مقابل - لحماية حدودها تأسيسا على القرار الإسرائيلي المنفرد بإخلاء الحدود بالمخالفة لنصوص معاهدة السلام.
·         يثير رفض حركة حماس الإخوانية - قبل وبعد الثورة المصرية - تسليم إرهابيين غزاويين محددين بالاسم للسلطات المصرية - لاتهامهم بقتل الضباط والجنود والمدنيين المصريين بدم بارد، وبالتسلل عبر الأنفاق إلى الأراضي المصرية لإشاعة الفوضى، وإحجام الرئيس مرسي وجماعة الإخوان عن مطالبة مسئولي حركة حماس التابعة للجماعة في زياراتهم المتكررة لمصر بتسليم المطلوبين، ثم التراجع عن تدمير أنفاق رفح بالرغم من المطالبة الشعبية في سيتاء وكل مصر بتدميرها فورا - تساؤلات حول مدى ارتباط هذا السلوك المعيب - الخالي من الاعتراف بالتضحيات المصرية للقضية الفلسطينية - بالأجندة الإخوانية للمنطقة وبالمخطط الصهيوني الأمريكي لنقل الغزاويين إلى أراضي بديلة في مصر، وعن قرب استخدام القوات المسلحة المصرية في مغامرات "الفتوحات الإسلامية" على غرار "الفتوحات العروبية" وحرب اليمن.
·         في يوليو 2006 أعلنت الوزيرة كوندوليزا رايس من تل أبيب إطلاق آلية "الفوضى الخلاقة" لتنفيذ مخطط "الشرق الأوسط الجديد" لنشر الديموقراطية بالمنطقة. وبذلك أحدثت الإدارة الأمريكية تغييرا استراتيجيا هائلا بإحلالها لآلية "الفوضى الخلاقة" التي وفرتها لها القوة الناعمة - الأقل تكلفة ماليا وبشريا - والتي أنتجتها النقلة التكنولوجية الكبرى محل القوة العسكرية التقليدية السافرة كوسيلة لتحقيق أهداف مشروع "الشرق الأوسط الكبير أو الجديد"، بحيث توجه الأجهزة المعادية الأحداث وتسيطر عليها بكل الوسائل، وخصوصا بتكنولوجيا الفضائيات والإنترنت. وليس خافيا على أحد - وبصفة خاصة الشباب الوطني المتمكن من التكنولوجيا أن الإنترنت تشكل الآن - بعد أن حولت ثورة الاتصالات والمعلومات العالم إلى قرية صغيرة مفتوحة يمكن الولوج بها بسهولة إلى خصوصية المنزل والمكتب وحتى المقهى، وتسيطر عليها قوة غير منظورة تؤثر في الواقع ولا تتأثر به - إحدى أهم الأذرع المخابراتية ووسيلة مؤثرة جديدة لإحداث التغيير والسيطرة وللانتشار بسرعة مذهلة.
·         مواقع الإنترنت التي استخدمها الشباب لإطلاق الثورة قادرة تماما على استخدام قواعد البيانات والمعلومات التي تملكها الآن عن البلد وعن الشباب، لتوفير معلومات يومية تشكل مصدراً مهما لأي جهة ترغب في معرفة أدق التفاصيل عن عالم الشباب العربي، وأنها يمكن أن تمكن أجهزة القوى المعادية أو الحركات المناوئة من اختراق مجموعات الشباب المنظمة للثورة بواسطة عملاء مدسوسين لإعادة توجيه الحركة الوطنية والانحراف بها إلى أهداف خارجية غير وطنبة وإلحاق الضرر بمصر والمنطقة في أي وقت في المستقبل، كما أنها تتيح للأجهزة المخابراتية الصهيونية تحليل كم هائل من المعلومات المتاحة لتكوين صورة مخابراتية عن الشباب العربي المسلم والمسيحي تستطيع من خلالها تحريك الشارع العربي في أي وقت. وتعتبر قصة بي بي سي عن الشاب الاسكتلندي الذي اكتشف منتحلا لشخصية مثليه سورية على شبكة الإنترنت مثالا جيدا على ذلك.
·         تعتمد آلية "الفوضى الخلاقة" - التي أعلنت الوزيرة كوندوليزا رايس في يوليو 2006 إطلاقها لتنفيذ مخطط "الشرق الأوسط الجديد" لنشر الديموقراطية بالمنطقة - عملية طويلة الأجل من خطوات مطردة ومرنة تستغرق سنوات لتحقيق أهدافها الاستراتيجية استدعاء غضب الجماهير في الوقت المناسب ضد أنظمة دكتاتورية مستبدة وفاسدة قامت القوة العظمى بتمكينها ومساندتها لسنوات، واستخدام الطبيعة الانفعالية الحماسية للجماهير الغاضبة المفتقدة للعدالة والكرامة لإطلاقها ذاتيا "لتحريك" الاحتجاجات ضد الأنظمة، ثم استغلال التناقضات والاختلافات بين التنظيمات السياسية لاختراق المجتمع وتحريك قوته الذاتية ضده لزعزعة الاستقرار ونشر الفوضى، وأخيرا الخطوة الأخيرة بإذكاء النعرات الدينية والطائفية والتعصب واستقطاب المجتمع وتمكين التنظيمات المتطرفة من السلطة لإثارة الفتنة وإشعال المنطقة وتفجيرها ليسهل تقسيمها إلى كيانات ضعيفة وإعادة ترتيبها في نهاية الأمر.
·         استمرت إدارة الرئيس أوباما في تبني مخطط اليمين الأمريكي الصهيوني - المبني على التسليم بعدوانية ورجعية الإسلام - الذي أعلنته الإدارة الأمريكية السابقة بنشر "الفوضى الخلاقة" لتفتيت وإعادة تقسيم دول المنطقة لتفريغ المنطقة من الدول القادرة، مع الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي غير المحدود للدولة الصهيونية، وهو ما يؤكد مبدأ استمرارية الاستراتيجيات الوطنية للقوى العظمى بصرف النظر عن انتقال السلطة من حزب لآخر.
·         يعتبر انزلاق دول المنطقة بالتراتب والتزامن إلى المطالبة بالتغيير الفوري استنادا إلى أداء الأنظمة المصحوبة بضغوط علنية متزامنة من أعلى مستويات القوى الكبرى مؤشرا بإطلاق عملية تكوين الشرق الأوسط الجديد من الداخل، بما تتضمنه من مخططات تفتيت وتقسيم الدول وإعادة ترتيب المنطقة في إطار استراتيجية هدفها تحقيق نهائية إسرائيل كمركز السيطرة على المنطقة.
·         لم يكن وجود الوفد العسكري المصري برئاسة رئيس الأركان في واشنطن ووجود الحاملتين الأمريكيتين في بحيرة التمساح والسويس من قبيل الصدفة، ولكنه جاء لترهيب القوات المسلحة المصرية واستعدادا للتدخل وفرض الأمر الواقع بالقوة المسلحة إذا ما فشلت القوة الناعمة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية.
·         بريطانيا هي من ابتكر "آلية" الدول الدينية والإثنية لاستقطاب شعوب المستعمرات السابقة وإثارة الفتن فيها لمنع نهوضها، وهي من ساندت الحركة الصهيونية بزعامة هيرتزل في فلسطين والحركة الإسلامية بزعامة جناح في الهند وجماعة الإخوان المسلمين بزعامة حسن البنا في مصر - ثم في المنطقة - وأطلقت بإسرائيل وباكستان - بمباركة الصهيونية العالمية - آليتها الخبيثة لإضعاف وتقسيم الدول ويمزقون الآن بها السودان "مركز حوض النيل" إلى جنوب مسيحي وشمال مسلم وغرب إفريقي، ويسعون لتطبيقها في مصر والمنطقة.
·         تنطلق الخطة المعلنة لإثارة الفتنة في المنطقة من "فكرة الدول الدينية والإثنية" الخطيرة والفعالة التي تعتبر مصر هدفها الرئيسي ويلعب الداخل المصري فيها دورا رئيسيا، ويتقاطع فيها مخطط اليمين الأمريكي الصهيوني للمنطقة في إطار مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي أعلنته الإدارة الأمريكية السابقة، مع مخططات التطرف الإسلامي والمسيحي والإرهاب، ومع الدور الذي لعبه ويلعبه طلاب سلطة فوضويون احتكروا الحقيقة واحترفوا الإثارة والتحريض.
·         كانت بريطانيا هي الراعية الأولى لجماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها وتبعتها فيما بعد المملكة السعودية التي دعمت الجماعة في مصر ووفرت لها ولأعضائها الملجأ والأموال وسهلت لها توسيع قاعدتها في المملكة وفي المنطقة والخارج لمنافسة الملك المصري على الخلافة، ثم فيما بعد الولايات المتحدة - بعد أن انتقلت إليها السيطرة على المنطقة - لمقاومة المد الثوري الناصري، كما سهلت إسرائيل إنشاء فرعها في غزة - حماس - لمنافسة وإضعاف نفوذ فتح.
·         ليس خافيا - كما يشهد تاريخ جماعة الإخوان على مدى 83 عاما - أن الجماعة - كتنظيم أصولي دولي عابر للحدود، ذو طبيعة عسكرية يقسم أعضاؤه على السرية والولاء والسمع والطاعة لغير الوطن لا يدخل مصلحة مصر الوطنية كأولوية في حساباته وإنما يحركه السعي إلى السلطة وأجندات مخفية - هي من قاد الإسلام في مصر من الوسطية إلى الوهابية، وأطلقت الإرهاب الديني في مصر منذ أربعينات القرن الماضي، وسيست الدين واستخدمته بلا حدود في السعي إلى السيطرة على الناس لخدمة أجندات سياسية غريبة على مصر، فحل بمصر استقطاب ديني يكاد يقسم البلد ويثير الفتنة. أي أن عقيدة الجماعة ومرجعيتها - التي تعرف الوطن بالخلافة الإسلامية على اتساعها وشمولها وليس الدولة المصرية بمواطنيها وحدودها - تهدد بانحياز المرشد والجماعة لغير المصالح الوطنية - أي للمصالح التي تراها الجماعة إسلامية - إذا ما ظهر تعارض بين مصلحة مصر والمصريين وبين مصلحة الأشقاء الفلسطينيين من أعضاء الجماعة في غزة مثلا.
·         لم تغير التنظيمات الدينية المسيسة - جماعة الإخوان والتنظيمات السلفية المنبثقة عنها - أهدافها ولكن ما تبدل هو استراتيجيتها كجزء من عملية تسويقية تستهدف قطاعات متباينة من المجتمع، فبينما أدخلت مؤخرا ألفاظ "الديموقراطية والوطنية" على أدبياتها "الأصولية" للتمويه، تزيد التنظيمات السلفية المنبثقة عنها من تشددها، وهي - ولها كيانات منظمة في نحو 80 دولة - ما زال يراودها حلم "دولة الإسلام العالمية" وتسعى لتحقيقه، وتستخدم الآن ديموقراطية الثورة "لامتلاك الأرض وفرض الرأي" ولإحكام سيطرتها على الحكم في مصر. فهل يعني ذلك العودة إلى التسلط والإرهاب وقتل المسئولين والمفكرين وضيوف مصر الذي مارسته منذ الأربعينات وحتى الآن وتموهه اليوم بلفظ "الفزاعة" بينما تحركها تطلعاتها للسلطة فتقطع الطرق والسكة الحديد وتمارس العنف والاستقطاب وتعترض التهدئة؟
·         بعد أن استقبله الرئيس أوباما وأعلن ترشحه للرئاسة المصرية من الولايات المتحدة على شاشة CNN، عاد الدكتور البرادعي لمصر وأعلن بكلام مرسل أنه يريد لمصر التغيير والديموقراطية ويريد للمصريين حقوقهم واحترامهم، ثم سارع إلى الانحياز للإخوان المسلمين الذين استقبلوه في مصر استقبال الأبطال، لتظهر الأبعاد الحقيقية لتحالف مشبوه تقف خلفه وتدعمه الولايات المتحدة.
·         تعتبر أجهزة المخابرات الرئيسية التنظيمات الدينية المسيسة - وهي تنظيمات باحثة عن السلطة بأي ثمن وجاهزة ومجربة ويمكن الاعتماد عليها سبق للمخابرات الأمريكية CIA استخدامها بنجاح تحت اسم "الأفغان العرب" في الحرب ضد السوفييت في أفغانستان - والجماعات المسيحية ذات الأجندات الدينية المتطرفة - خصوصا التي تستقوي بالخارج - هي محاور رئيسية لمقاربة مصر باعتبارها المفجر الذي تستخدمه آلية "الفوضى الخلاقة" لإتمام تفجير البلد من الداخل، لتثور الفتنة وتتحول مصر إلى دولة فاشلة أخرى قابلة للتفتيت وإعادة التقسيم برعاية دولية. وقد أصبحت جماعة الإخوان المسلمين - الجماعة السياسية المنظمة الوحيدة في مصر - القوة التي تراهن واشنطن على تطلعها للسلطة لتحقيق أهداف مبادرة الشرق الأوسط الكبير GMEI.
·         يشير قبول الولايات المتحدة بمشاركة جماعة الإخوان في الحكم، وإعلان رئيس الوزراء نتانياهو مؤخرا استعداد إسرائيل لإقامة علاقات مع حكومة للإسلاميين إلى التطور في علاقة أمريكا - والآن إسرائيل - بالجماعات الدينية، وإلى الدور المخطط لقوى الداخل القيام به باستخدام الحالة النفسية للثائر المصري الغاضب والتركيبة النفسية للمتطرف الإسلامي والمسيحي.
·         يفصح تطور الأحداث - منذ 12 فبراير 2011 وحتى اليوم - عن رغبة في منع العودة للاستقرار ولاستمرار دفع مصر إلى الفوضى، لتصبح الأرض ممهدة لتحقيق أهداف مخطط حقيقي ومعلن لزعزعة مصر، وتؤذن بقرب إسقاط مصر في فتنة دينية - هي الخطوة الأخيرة في آلية الفوضى الخلاقة - للوصول بمصر إلى لحظة التفجير ولتنتهي بهزيمة نهائية لمصر من الداخل وتقسيم هذه الدولة ذات المقومات العظيمة التي استحالت عليهم بالحروب إلى دويلات على المقاس الصهيوني تصلح لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، طبقا للمخطط الصهيوني ولمبادرة الشرق الأوسط الكبير.
·         أخيرا، بدأ في الظهور إلى السطح الدور الذي لعبته في الخفاء - وتنكره - الولايات المتحدة[i] لحفز وتحريك الشباب في مصر الذي قادته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA باستخدام "الوقف الوطني للديمقراطية National Endowment for Democracy" و"بيت الحرية Freedom House" و"المعهد الديموقراطي الوطني National Democratic Institute" و"المعهد الجمهوري الوطني National Republican Institute" وغيرها من التنظيمات الأجنبية التابعة لها في أوروبا والمنطقة لإعداد وتدريب القيادات على تحريك وتوجيه الجموع، واستخدام الفضائيات والصحافة العربية والدولية لإكساب الاحتجاجات قوة الدفع اللازمة لإحداث التغيير، وهو ما يثير تساؤلات هامة للصديق الأمريكي حول مفهوم الديموقراطية الانتقائية الذي يصلح للمنطقة ولكنه يستقطب الطوائف ويستبعد الآخر ويدعم الانفراد الطائفي بالسلطة، وعن كيف يمكن لمن ينكر الآخر ويقسم بالولاء والطاعة لغير الوطن أن يكون ديموقراطيا ووطنيا؟!
·         أدت المساعدات الأمريكية الاقتصادية والعسكرية المستمرة والمتصاعدة لإسرائيل - آخرها الجيل الأحدث من المقاتلات المتقدمة ف 35 - إلى تفوق عسكري ساحق على كل جيرانها بما في ذلك مصر، بل إلى تفوق نوعي على القوى العظمى بما في ذلك روسيا والصين.
·         ليس هناك شك الآن في حقيقة يعلنها كل يوم رئيس وأعضاء الحكومة الإسرائيلية، بأن أهداف المخطط الاستراتيجي الصهيوني تشمل تهويد الدولة ضمن حدود ما يسمى "أرض إسرائيل" ونقل غير اليهود إلى أراض يتم توفيرها عبر ما يسمى "تبادل أراض" - أو بالاستيلاء على أراضي - منها أراض مصرية في سيناء، مع تحقيق حلم إسرائيل الكبرى - من النيل إلى الفرات - بتفريغ محيط الدولة الصهيونية من الدول القادرة على تقويض أمن "الدولة اليهودية" أو منافستها على كل موارد المنطقة في المستقبل القريب أو البعيد.
·         يؤشر تصعيد إسرائيل للضغوط على مصر بالرغم من توقيعها معاهدة السلام معها في كامب ديفيد - بتقويض سيادتها على حدودها الشرقية، وتشديد إجراءات حصارها إفريقيا، والضغط عليها مائيا في حوض النيل - باستمرار النوايا العدوانية الصهيونية تجاه مصر برغم التزامها بمعاهدة السلام الموقعة بينهما، كما ينبئ بانهيار العلاقة بينهما لأن العقل الصهيوني - بعكس العقل المصري - يفضل العلاقة الفوقية ولا يحتمل فكرة المخاطرة، ولأن المخطط الصهيوني لا يتضمن احتمال قيام السلام الدائم والعيش المشترك بالمنطقة في المدى الطويل، بذريعة الحق في أرض الأجداد - كما يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو - والافتراض الضمني بانعدام أي حق "لغير يهود" يبدو أنهم جاءوا من العدم.
·         عدد الرئيس المتقاعد للموساد - في مناقشة الحساب الختامي لولايته - الإنجازات التي حققها الجهاز تحت رئاسته على الجبهة المصرية خلال فترة ولايته - بعد توقيع معاهدة السلام - والتي شملت إثارة النعرات الطائفية بين الأقباط والمسلمين، وتوتير علاقة مصر مع دول حوض النيل وتجفيف منابع النهر لمصر بإقامة السدود والمشاريع لدول المنابع خصوصا إثيوبيا، والضغط على قناة السويس بتشجيع القرصنة في مياه البحر الأحمر، وإثارة القبائل بشمال سيناء وتأمين المنطقة للتحضير لعملية نقل الغزاويين إلى أجزاء منها.
تفضي كل هذه الحقائق الموضوعية إلى استنتاج واحد ممكن هو أن الحركة الصهيونية العالمية - التي استوعبت وهضمت اليمين المسيحي الأمريكي وتسيطر تماما على السلطة التشريعية وتعمل لها الإدارة الأمريكية السابقة والحالية ألف حساب - ماضية في مشروعها الذي بدأته في 1897 - بتركيز وتصميم وطبقا لبرنامج زمني محكم - لتحقيق نهائية إسرائيل بإخلاء المنطقة من الدول القادرة على إزعاجها - وعلى رأسها مصر - التي أعلنت الإدارة الأمريكية إطلاق "آلية الفوضى الخلاقة" فيها وأوشكت - بعد تفاهمها مع جماعة الإخوان والتنظيمات المنبثقة عنها ذات الأيدولوجيات والأهداف الخاصة - على الوصول إلى خطوتها الأخيرة التي تؤدي إلى تفجير مصر والمنطقة من الداخل ثم إعادة ترتيبها وتقسيمها لتثبيت الأوضاع الطائفية التي تنتجها "فتنة دينية" يسببها سعي هذه التنظيمات - صاحبة التوجهات غير المصرية العابرة للحدود - للسيطرة على كل سلطات الدولة. يبقى أن نجاح آلية "الفوضى الخلاقة" في تحقيق أهداف مبادرة "الشرق الأوسط الكبير الجديد GMEI" يعتمد تماما على تطيرنا واندفاعنا وعلى غفلتنا التي تستغلها الآن بكل اقتدار قوى خارجية محترفة درست طبيعتنا وردود أفعالنا باستفاضة وعناية وتعمل بتركيز على منع عودتنا للاستقرار ولاقتيادنا إلى حتفنا في غيبة من النضح والوعي.
فلم يعد خافيا أن الولايات المتحدة الأمريكية التي مارست "لعبة الأمم" لعقود، قد أطلقت العنان لقوتها الناعمة المستخدمة في المواقع الاجتماعية والفضائيات - التي أنتجتها النقلة التكنولوجية الكبرى المتمثلة في تكنولوجيا الحواسب وقواعد البيانات والإنترنت والاتصالات والفضاء - وأحلتها كلما أمكن محل القوة العسكرية التقليدية السافرة كطريقة العمل Modus Operandi - الأقل تكلفة ماليا وبشريا - التي تحقق لها إعادة تشكيل العالم طبقا لأهدافها ومصالحها، وأنها - وإن كانت قد بدأت بحرص في أوروبا الشرقية - فقد منهجتها وأطلقتها في الشرق الأوسط بتزامن وتراتبية في إطار مخطط أعد بعناية، بل وبدأت استخدامها ضد الدولتين الأكبر - الصين وروسيا - وهو ما أنتج مؤخرا ردود أفعال علنية من الدولتين الكبيرتين.
كما أن من المسلم به أن المخطط الدولي المعقد والخطير الذي ندير الموقف الحالي في إطاره ينطلق من حقيقة أن الشرق الأوسط هو منطقة لنفوذ القوى العظمى وأن إسرائيل - التي استأثرت لأكثر من قرن بدعم مطلق من كل قادة القوى الغربية الاستعمارية - هي مركز متقدم لسيطرة القوى العظمى على هذه المنطقة ومواردها الطبيعية، كما أن قيام إسرائيل لم يكن حدثا وقع في أحد أيام العام 1948، ولكن عملية طويلة الأجل مطردة ومرنة وقابلة للتكيف مع الوضع السياسي الدولي خلال القرن الماضي المفعم بالأحداث والتغيرات الخطيرة للمنطقة والعالم، بدأت بالمؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية في بازل منذ 114 عاما وشارك فيها بكل وضوح قادة الدول العظمى - بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد أمريكا - وما زالت مستمرة.
إننا ندرك أن آلية "الفوضى الخلاقة" هي "عملية" طويلة الأجل من خطوات مطردة تستغرق سنوات لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ارتكزت - قبل ذكاءهم - على غفلتنا وغبائنا وأنانيتنا والخيانة بيننا، وبدأت باستدعاء غضب الجماهير ضد دكتاتور مستبد وفاسد قاموا هم بتمكينه ومساندته لسنوات، ثم أتاحت المال والتدريب لقلة منتقاه تم دسها - كطابور خامس - بين الشباب، و أتاحت للشباب الوطني الغاضب المفتقد للعدالة والكرامة "القوة الناعمة[1]" اللازمة لإطلاق "الثورة"، ثم استغلت التناقضات والاختلافات بين القوى السياسية لاختراق المجتمع وتحريك قوته الذاتية ضده بإذكاء النعرات الدينية والطائفية والتعصب واستقطابه لزعزعة البلد ونشر الفوضى ومنع العودة للاستقرار. هذه الآلية ليست جديدة علينا، وقد سبق للولايات المتحدة أن استخدمتها ضدنا قبل أن يتم تطويرها وتدعيمها بالوسائل التكنولوجية المستحدثة، ولكنها - بعد تطويرها - متكاملة وخطيرة وفعالة وتستحق منا أقصى درجات الانتباه والحذر.
كذلك فإن من البديهي أن الولايات المتحدة ليست الممارس الوحيد "للعبة الأمم" في مصر والمنطقة، ولكنها بالتأكيد اللاعب الأكبر والأقدر. وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بتعيينها كمركز متقدم للسيطرة وحارس على مصالحها في منطقة نفوذها الهامة في الشرق الأوسط، فهي تستعد الآن - بعد أن استكملت حصارها لمصر في أفريقيا والبحر الأحمر - لاستعادة السيطرة على سيناء وربما أيضا اتمام عملية نقل الغزاويين Transfer إلى جزء منها، فإن حكومة الملالي في إيران تطل الآن على البحر الأبيض المتوسط مع حلفائها الشيعة العلويين والجعفريين في سوريا ولبنان - وللمفارقة - الإخوان المسلمين السنيين في غزة، وهم - كما نعرف بالتجربة - يثيرون المشاكل في سوريا ولبنان، وفي سيناء وفلسطين، وفي الخليج، واليوم تستكمل الولايات المتحدة الدور الذي بدأته بريطانيا قبل أن ينحسر نفوذها وينتقل دورها - في استقطاب شعوب المنطقة وإثارة الفتن فيها لمنع نهوضها - إلى الولايات المتحدة.
لذلك لا يجب أن نصدق أو نظن للحظة أنهم قد فوجئوا بما أسموه قصدا "الربيع العربي،" فهذا كله جزء من "حيكة السناريو" ونحن بصدد اللعبة الكبرى "لعبة الأمم" وثوابت الأطماع والمصالح الخارجية والداخلية لا تسمح بذلك، والآلية تعتمد على التركيبة المجتمعية وعلى خصائص الفرقاء، وعلى الرغبة في منع عودة مصر للاستقرار ولاستمرار دفعها إلى الفوضى لتصبح الأرض ممهدة لتحقيق أهداف مخطط حقيقي ومعلن لزعزعتها. هذه الأهداف لم تزل كما هي - لم ولن تتغير وإن تغيرت الاستراتيجيات أو التحالفات والأدوات - وهي تؤذن بقرب إسقاط مصر في فتنة دينية هي الخطوة الأخيرة في آلية الفوضى الخلاقة - تبدأ بتولية متطرفين الحكم لتفجير الصراع الديني - وتنتهي بهزيمة نهائية لمصر من الداخل وتقسيم هذه الدولة ذات المقومات العظيمة التي استحالت عليهم بالحروب إلى دويلات على المقاس الصهيوني تصلح لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ولتصل رحلة القرن الصهيونية التي بدأت في 1897 إلى نهايتها وأهدافها طبقا للمخطط الصهيوني بنجاح.
إن من أشادوا بثورتنا وسارعوا إلى تأييدها ووعدونا - مع أتباعهم - بفيض من المساعدات، تبخرت الآن بعد أن نكصوا بوعودهم - وكذلك أتباعهم - يدبرون الآن - مع طابور خامس من قلة قليلة من المجندين المدربين الجدد المدسوسين على الشباب ولكنهم يعلمون بالمخطط ويشاركون في تنفيذه لينشروا الفوضى وينحرفوا بثورة السواد الأعظم من الشباب الوطني النقي العظيم المشارك بالثورة ولا يعلم بالمخطط أو يدرك المخاطر، ومن العملاء القدامى بالتنظيمات السياسية بالداخل الذين ركبوا أكتاف الثوار الشباب وخطفوا ثورتهم - ويسعون الآن - بينما نحن نتوخى أقصى درجات الحذر - لتدمير وتفتيت "مصر التاريخية" وتقسيمها إلى دويلات لا حول لها ولا قوة توفر العمالة الرخيصة وسوق الاستهلاك للاقتصاد الإسرائيلي!
هذا الإطار الدولي المعقد والخطير يتطلب استدعاء المصريين لوعيهم ومواجهتهم لتداعيات وتحديات ثورتهم بكل فصائلهم مجتمعين ومتوافقين في إطار مصري وطني خالص وبغير استبعاد لأي طرف من الأطراف، حتى يستمدوا من اجتماعهم ووفاقهم ووحدة هدفهم قوة تتطلبها خطورة المرحلة وصعوبة المهمة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في ظل الاستقطاب الديني المسيحي والإسلامي والأيديولوجيات المتطرفة والأموال المستوردة والأجندات المخبأة والأفكار التكفيرية والتنظيمات العابرة للحدود الناكرة لحقوق المواطنة ولوحدة النسيج الوطني المصري والداعمة لازدواج الولاء أو تنازعه بين الوطن والدين، وما يصحبها من مظاهر الإثارة الإعلامية والتحريض والتهييج السياسي والديني والحديث عن الماضي وإغفال المستقبل التي يديرها الإعلام بشكل عام والفضائيات بصفة خاصة، والتي تستهدف الحالة النفسية للثائر المصري الغاضب والتركيبة النفسية للمتطرف الإسلامي والمسيحي وضحالة وانتهازية الإعلامي المصري وسهولة انقلابه وتلونه. وهو ما يقتضي - حتى لا يكون الولاء لغير الوطن في إطار خصوصية علاقة الإنسان بربه - أن تتوقف الدعوات الخبيثة والقاتلة للتمايز على أسس دينية أو إثنية، وأن تعلن جماعة الإخوان والتنظيمات المنبثقة عنها في مصر التخلي عن أهدافها العابرة للحدود واعترافها بالدولة المدنية وبحقوق المواطنة الكاملة والمتساوية لكل المصريين بلا تمييز بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو العقيدة، فهكذا تكون مصر العظيمة المتحضرة السمحة التي رفعت شعار "الهلال والصليب" وانتخب مسلموها في عشرينات القرن الماضي مجلسا نيابيا ربعه من المسيحيين الأقباط، ليعطوا العالم كله درسا في الوسطية والسماحة والعيش المشترك، ولهذا أيضا قام الشباب بثورتهم بعد تسعين عاما وسقط شهداؤهم من أبنائنا.
وإذا كان إعلان دولة إسرائيل في موعده في 1948 - وما تلاه من تراكم للإنجازات - قد جاء نتيجة لعمل مخطط ودؤوب وانعكاسا لمدى التركيز والتصميم الذي لم يظهر على مدى 114 عاما - وحتى الآن - أي مؤشر لتناقصه أو اهتزازه، وإذا كانت إسرائيل مستمرة في توتير العلاقات الطائفية الداخلية بين الأقباط والمسلمين وعلاقات مصر الخارجية مع دول حوض النيل وفي إثارة القبائل بشمال سيناء وتشجيع اختراقات الإسلاميين للحدود الشرقية بينما تتشدد في تطبيق القيود على حركة القوات المصرية لحمايتها، فقد كان علينا أن نتدارك أمرنا وأن نبادر إلى تصحيح طبيعتنا الانفعالية المتطيرة المكتسبة التي تعتمد ردود الأفعال بدلا من التخطيط الاستراتيجي والتركيز طويل الأجل ولا تتناسب مع مقتضيات انتقال الحركة الصهيونية العالمية إلى "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي يحقق "نهائية إسرائيل" وسيطرتها الكاملة على المنطقة، والذي لا يمكن للمصريين القبول بأي احتمال مهما كان لوجوده من أساسه، حتى لو لم تتجاوز فرص نجاحه 1%. ومع ذلك يستمر إغفالنا بعد التغيير - قيادة وشبابا - لحقائق الإطار الدولي الجديد لإدارة المنطقة الذي أعلنته الولايات المتحدة بوضوح، ولما يعنيه قبول الولايات المتحدة بمشاركة جماعة الإخوان في الحكم - ومفاجأة رئيس الوزراء نتانياهو بإعلانه في أعقاب اختطاف "السلفية الوهابية" للثورة استعداد إسرائيل لإقامة علاقات مع حكومة للإسلاميين - ما يعنيه لقرب إنفاذ الدور المخطط لقوى الداخل القيام به باستخدام الحالة النفسية للثائر المصري الغاضب والتركيبة النفسية للمتطرف الإسلامي والمسيحي وانتهازية الإعلامي المصري وسهولة انقلابه وتلونه.
ولذلك، فعلى الشباب - في ضوء المخاطر المحدقة بمصر وبعد كل ما أظهره من وطنية وشجاعة وتضحية - أن يأخذ حذره من أن تستخدم رغما عنه نفس التكنولوجيا ومواقع الإنترنت - التي أنجحت تحركات شباب الثورة في المقام الأول - في تنفيذ "مخططات معلنة" لقوى خارجية لإعادة ترتيب المنطقة وإلحاق الضرر بمصر، وأن يفطن إلى الانقلاب الإعلامي الكامل الذي اتجه - بنفس مروجي النظام الساقط - لشيطنة ورجم الرئيس السابق وتأليه شباب 25 يناير 2011 على غرار ما حدث لشباب 23 يوليو 1952، وإلا يبالغ في تقدير علمه وخبرته وحكمته فيقع في فخ الغرور والوهم ويأخذ مصر إلى طريق سبق إليه شباب ثورة 1952 فأضاعوا مصر. كما أن على الشباب أن ينظر إلى أوروبا ليدرك أن الدول أيضا تفلس، وأن يعيد تقدير الموقف ومراجعة الحسابات في ضوء التأثيرات القاتلة لتوقف البلد ومعطيات خارجية وداخلية بالغة التعقيد تنذر بإفلاس وتدمير مصر خصوصا مع الزيادة المنتظرة في البطالة وعشرات المليارات من الأعباء الجديدة المترتبة على عودة العمالة المصرية من ليبيا والمنطقة. كما أن عليه أن يدرك، أنه بخلاف الإنجاز لتنحي الرئيس في 11 فبراير، يبقى أن الحكم النهائي بنجاح أو فشل ثورة الشباب في 25 يناير 2011 من منظور وطني كلي يظل مرهونا بفهمنا للإطار الدولي واستيعابنا لطبيعة ورؤى وأهداف واستراتيجيات ومخططات وأدوات القوى الدولية وتشابكاتها وتفاعلاتها، وبزيادة حبكة ودقة وسرعة الإجراءات المضادة لمشروع "الشرق الأوسط الكبير" لحسم الموقف الكلي لصالح مصر، وباستكمال بناء وتثبيت النظام الجديد، وبعودة النظام والالتزام إلى الشارع وعودة البلد إلى العمل والإنتاج.
كذلك فإن علينا جمعا أن نقدر - من منطلق المسئولية الوطنية - أن خسائر مصر تتعدى بكثير النتائج المباشرة للعنف والتدمير، وتمتد إلى انهيار سوق المال والمراكز المالية للمستثمرين وانتقال ملكية الأصول المصرية لأجانب بأبخس الأثمان، وتراجع المؤشرات الائتمانية للاقتصاد وخسائر الناتج المحلي بسبب توقف البلد والتي تناهز مليارين من الجنيهات - تزيد أو تقل - في كل يوم منذ السادس والعشرين من يناير، وأن استمرار ما يحدث قد يمثل دعوة لشباب عسكريين للمبادرة - من منطلق حسن النية أيضا - إلى انقلاب جديد على الدولة لإنقاذ البلد، وساعتها يتصادم الشباب العسكريين مع شباب الثورة، فتسيل دماء مصرية ويعيد التاريخ نفسه وتسقط مصر - في أحسن الأحوال إذا أمهلتها "الفوضى الخلاقة" - في بئر الشرعية الثورية والتجارب والمغامرات مرة أخرى. كما أن علينا أن نعي أن مصر المسـتقطبة والمنهكة والمأزومة والمســتهدفة لن تحتمل دورة أخرى كالتي انقضت، بعد أصبحت صحراء بلا مياه وبشـرا بلا إنتاجيـة يتربص بها المتربصون وتحاصرها الأطماع من كل اتجاه. ولذلك فإن الشباب الوطني الذكي والمتحمس مطالب بأن يظهر من الحكمة ما يتناسب مع خطورة الموقف وفداحة الخسائر.
يبقى أن نتفهم أن بقاء مصر كلها مشروط بصفاء النوايا وسلامة المقاصد وإنكار الذات، وبعودتنا إلى خصوصيتنا المصرية وباستعادتنا لوعينا والتركيز والجَلَد وتكريس الطاقات وتضافرها، وبمراجعة موقعنا ودورنا وأداءنا وقيمنا في ضوء المصالح والأولويات المصرية دون غيرها، وبوسطيتنا وسعينا إلى وطن واحد لجميع المصريين تتساوى فيه علاقة المصريين بالوطن دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو العقيدة، وتظهر فيه سطوة الدستور والقانون وتٌجَرم أية دعوة إلى الاستقطاب والفتنة، وأن مثل هذه الأهداف والمهام التي تمس مصير الوطن لا تتسع للأجندات السياسية أو لأحلام المجد أو الكسب الشخصي وتتطلب لقيادتها رجال ونساء دولة وعلم وفكر ممن ينكرون الذات ويمتلكون الإرادة والحكمة والرؤية الاستراتيجية والحنكة السياسية وأدوات ومقومات وخبرات وتجارب العمل العام.
ما تحتاجه مصر في المرحلة الانتقالية - في ضوء المخاطر الخارجية والداخلية المحدقة بها والتي تهدد بشكل حقيقي وجودها التاريخي - هو اليقظة والتعامل بيد قوية وحازمة وحاسمة وعاقلة وهادئة مع ما يدبر لها خارجيا وداخليا دون إهمال لأجندة التغيير السياسي والاجتماعي التي يجب أن تتضمن برنامجا زمنيا - يضمن الوقت الكافي للإعداد المتأني وللتوافق الوطني - قبل الاستفتاء على دستور جديد وقوانين جديدة لدولة مدنية برلمانية ديموقراطية تكفل حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية لكل المصريين وتمنع التمييز بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو العقيدة، وتضمن الشفافية والمساءلة وتتيح محاسبة ومحاكمة الرئيس وأعضاء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحكم المحلي.
سيخطئ المصريون خطأ فادحا إذا ظنوا أن ثورتهم قد نجحت وحققت أهدافها بعد إقصاء الرئيس السابق وشلة المنتفعين الذين أحاط بهم نفسه، أو خيل لهم أن المخاطر قد انحسرت وابتعدت عن مصر، أو صدقوا رسائل الإعجاب والاستحسان القادمة من الخارج، فنحن الجزء الأهم من منطقة نفوذ للدول العظمى. ولذلك، فقد حان الوقت لإنهاء الحديث المكرر في أمور الماضي والتركيز على العمل لمستقبل مصر، ولدرء أخطار خارجية وداخلية كثيرة، تتضمن خطة تعتمد على الداخل وتستخدم التكنولوجيا والمواقع الاجتماعية على الإنترنت لاختراقه وتحريك قوته الذاتية ضده، ويتقاطع فيها المشروع الصهيوني للمنطقة في إطار "مبادرة الشرق الأوسط الكبير GMEI" التي أعلنتها الإدارة الأمريكية السابقة، مع مخططات التطرف الإسلامي والمسيحي والإرهاب بالمنطقة، ومع دور يهدف لامتلاك الأرض وفرض الرأي - لعبته وتلعبه داخليا قوى ذات أجندات خاصة عابرة للحدود سبق لها العمل لحساب المخابرات المركزية الأمريكية في أفغانستان - ويفي تماما بمتطلبات آلية الفوضى الخلاقة لإثارة الفتنة الدينية والصراع في مصر وخلق موقف جديد على الأرض ينتهي بتقسيم هذه الدولة ذات المقومات العظيمة التي استحالت عليهم بالحروب إلى دويلات على المقاس الصهيوني تصلح لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ولتصل رحلة القرن الصهيونية التي بدأت في 1897 إلى نهايتها وأهدافها طبقا للمخطط الصهيوني بنجاح، وضمان نهائية إسرائيل.
لا شك أن كل الأحداث تفصح عن رغبة شريرة في منع العودة للاستقرار ولاستمرار دفع مصر إلى الفوضى، لتصبح الأرض ممهدة لتحقيق أهداف مخطط خبيث - حقيقي ومعلن - لزعزعة مصر. وتؤذن بقرب إسقاط مصر في فتنة دينية - هي الخطوة الأخيرة في آلية الفوضى الخلاقة - لتنتهي بهزيمة نهائية لمصر من الداخل وتقسيم هذه الدولة ذات المقومات العظيمة التي استحالت عليهم بالحروب إلى دويلات على المقاس الصهيوني تصلح لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. إلا أنه بالرغم من كل هذه الحقائق فقد أصبح من الطبيعي والمسلم به هذه الأيام عند التنبيه إلى خطر هائل وشيك يحيق بالبلد، أن يصنف مثل هذا التحذير الجاد في إطار ما يسمى "نظرية المؤامرة." وفي الواقع فإن تصنيف هذا التحذير الجاد في هذا الإطار التهكمي هو جزء من آليات الدفاع عن المخطط يهدف إلى تشتيت وإفساد أي جهد جاد من جانب البلد المستهدف لزيادة الوعي لمقاومة الخطر المحدق به لبتم استيعاده ورفضه تلقائيا ببساطة ودون أدنى انتباه. وبالطبع، فإن هذا التعبير ليس مضللا فحسب، ولكنه يضر بمصلحة البلاد ويهدد بقاءها ذاته، كما أنه يتجاهل سياسات دول أخرى تجاه مصر والمنطقة أعلنتها هذه الدول فعلا وتقوم بتنفيذها حاليا بشكل طبيعي ومتوقع - ليس في إطار "نظرية المؤامرة" - وإنما كجزء لا يتجزأ من "الإدارة اليومية لمصالحها الوطنية"؛ في إدارة "صراعات الإرادة"، كما في حالة إسرائيل، أو في إدارة القوى الكبرى لمناطق نفوذها الإقليمي ومصالحها الاقتصادية، كما في حالة الولايات المتحدة.
ما تحتاجه مصر في المرحلة الانتقالية - لدرء أخطار خارجية وداخلية كثيرة وحتى لا تأخذنا مخططات دولية طويلة الأجل استغرق تنفيذها عشرات السنين إلى أماكن لم نكن نقصدها - هو اليقظة والتعامل المحسوب والموقوت بيد ثابتة وقوية وحازمة وحاسمة وعاقلة وهادئة مع ما يدبر لها خارجيا وداخليا، دون إهمال لأجندة التغيير السياسي والاجتماعي التي يجب أن تتضمن برنامجا زمنيا - يضمن الوقت الكافي للإعداد المتأني وللتوافق الوطني - قبل الاستفتاء على دستور جديد وقوانين جديدة لدولة مدنية برلمانية ديموقراطية تكفل حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية لكل المصريين وتمنع التمييز بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو العقيدة، وتضمن الشفافية والمساءلة وتتيح محاسبة ومحاكمة الرئيس وأعضاء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحكم المحلي.
كما سيكون من الضروري لمصر - حتى تحقق "تغييرا منهجيا منتظما ومتزنا" على النموذج الأسيوي تتجاوز به تحديات غير مسبوقة - أن تتبني في المرحلة القادمة الحاسمة من تاريخها الوطني أهدافا اقتصادية واضحة وخطة تفصيلية قابلة للتنفيذ لمشروع وطني متكامل لنهضة مصر يقارب التنمية على ستة محاور أساسية هي الأمن الوطني والبشر والمياه والطاقة والقيمة المضافة والتكامل الإقليمي الأفريقي والعربي، ويحقق استثمار وتنمية المزايا النسبية والتنافسية للاقتصاد المصري في السوق العالمي، ويرتكز على تعريف دقيق وواضح للأولويات وعلى دراسة تكلفة وعائد الفرص المتاحة للمشروعات الوطنية ماليا وبيئيا وأمنيا، ويطرح الأهداف والاستراتيجيات، ويستند إلى دراسات مقارنة للجدوى تبرر اختيارات مكوناته مؤسسة على القيم الحالية المحققة في أطر زمنية، ومستويات التعاضد أو التعارض بينها أو بينها وبين الأصول الوطنية القائمة، وتكلفتها البيئية وقيمها المضافة، ويشمل مؤشرات لقياس تحقيق الأهداف، وآليات وتكلفة تمويله وقدرته على رد التمويل وخدمته، ويورد بوضوح النتائج المتوقع تحقيقها والإطار الزمني لتحقيقها ، ويطمئن المصريين إلى سيادتهم على وطنهم.
ومع ذلك، فإن أداءنا المتردد معظم الوقت - ولكن المتسرع أحيانا حين يجب أن يكون حريصا ومحسوبا - يثير القلق والخوف من أن نكون لا ندرك حجم المخاطر الخارجية والداخلية المحدقة بمصر والتي تهدد بشكل حقيقي وجودها التاريخي، فليست دولة تلك التي لا تفهم أبعاد الإطار الدولي للمنطقة وتشابكاته وتفاعلاته مع القوى الداخلية، أو التي يقطع فيها الطريق وتهدم الأضرحة وتتهم شخصيات مسيحية ومسلمة "بالإفك والبهتان،" وتنتشر البلطجة ويشيع اللثام وتعلو كلمة الغوغاء على كلمة القانون وحقوق المواطنة.
فهل نستعيد الوعي ونسترد البلد ونحمي الثورة من الانحراف ونعرف الأولويات وننظر أمامنا - بدلا من خلفنا - لنستكمل بناء وتثبيت النظام الجديد ونعيد الالتزام إلى الشارع والبلد إلى العمل والإنتاج، قبل أن تأخذ المؤامرات الخارجية والداخلية مصر إلى انتكاسة كبرى تهدد وجودها التاريخي من أساسه؟!
دكتور مدحت بكري
 
 


[1]وصف جوليان أسانج Julian Assange، مؤسس ويكيليكس Wikileaks المواقع الاجتماعية - فيس بوك على وجه الخصوص - بأنها "أبشع آلة تجسس تم اختراعها على الإطلاق" ووصف الأستاذ بجامعة بروفانس جيرالد نيرو Gerald Nero مؤلف كتاب "مخاطر الانترنت Dangers of the Internet"، أحدث طرق التجسس التي قامت بها الاستخبارات الاسرائيلية ووكالة المخابرات المركزية على الإنترنت وكشف عن شبكة من مجندين إسرائيليين متخصصين في علم النفس لجذب الشباب من العالم الثالث منذ مايو 2001.