السبت، 25 أغسطس 2012

حذاري يا سادة، فالتاريخ يعيد نفسه في وقت اتسعت فيه فجوة القوة كما لم تكن أبدا!

نشر أول مرة: الأحد، 4 ديسمبر،  2011
"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" صدق الله العظيم
يُرْوَى أن أحد اليهود عندما سمع بهذه الآية قال: "والله لو نزلت علينا آية كمثل هذه الآية لجعلنا يوم نزولها عيدا لنا". فلقد كان هذا الإعلان الإلهي حُلمَ كل الأديان من قبل، لكي تعلن تلك الأديان ألا ناسخ لها من بعدها، وأنها ستكون الدين الأخير الكامل المتكامل الذي يصلح للبشر في كل الأوقات.
وصدق الله العظيم، فقد أتم نعمته علينا وأعطانا ديناً سمحا وسطيا كاملاً متكاملاً، أعطى للإنسان حرية الفكر واختيار العقيدة، ديناً لا يُكره المسلم على أداء شعائره، خص به الله ذاته - بغير شريك - بحساب كل إنسان من عباده، وقال في كتابه الحكيم:
”وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” [الكهف]
"لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ." [البقرة]
"ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء]
"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ" [الغاشية]
"‏‏فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى" [الأعلى]‏‏
‏‏"فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" [الذاريات‏‏]
"وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا” [الإسراء]
”فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" [الزلزلة]
وفي حين أمر صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأن يبحثوا عن الحقيقة في ضمائرهم - وليس في اجتهادات الآخرين - بقوله في حديث صحيح، رواه أحمد والدارميُّ عن وابصةَ الأسديِّ: "اسْتَفْتِ قَلْبَك واسْتَفْتِ نَفْسَك، اسْتَفْتِ قَلْبَك واسْتَفْتِ نَفْسَك، اسْتَفْتِ قَلْبَك واسْتَفْتِ نَفْسَك؛ البِرّ ما اطْمَأنَّت إليه النَّفْس والإثْم ما حاك في النَّفْس وترَدَّد في الصَدْر، وإن أَفْتاك الناس وأَفْتوك"، فإننا نرى بيننا اليوم من يحتكرون الحكمة ويعتقدون أنهم وحدهم يفهمون كلام الله ورسوله، وأن عليهم واجبا دينيا بفرض فهمهم هم لكلام الله وتصورهم لشريعته على جميع المؤمنين، وحتى على الناس من أتباع الديانات الأخرى، - وأن عليهم في سبيل ذلك "امتلاك الأرض وفرض الرأي". هذا الفهم المستورد المغرض الذي يسيس الدين ويضفي عليه الصفة الجمعية ويولي البعض على الكل، ليس من الإسلام في شيء. فليس لجماعة من المسلمين أن تكره مسلما - أو غير مسلم - على ما لا يقبله قلبه وتطمئن إليه نفسه أو يخل بخصوصية علاقة العبد بربه ومسئوليته الحصرية يوم الحساب عن أعماله، فالله سبحانه يحاسب العبد ولا يحاسب الجماعة. ولكنهم يأخذون لأنفسهم حق تطبيق شرع الله كما يفهمونه هم - لا بل الحساب والعقاب - ويُقَوِّلون الله ما لم يقله، فيضعون المصريين في مواجهة افتراضية مصطنعة مع الله بينما هم - فيما يذهبون إليه - على النقيض من شرع الله، وهم يكادون أن يكونوا من نزلت فيهم الآية: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)" [البقرة]، وهم الذين قال عنهم الصحابي سلمان الفارسي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يجئ أهل هذه الآية بعد"، فهل جاء أخيرا زمن أهل الآية الكريمة؟ وهل يأتون اليوم كطلاب سلطة محتكرين للعلم ممارسين للعمل السري وللعنف - يمتد تطرفهم لمدى واسع من فرض الرأي بالقوة في أكثرهم اعتدالا إلى التكفير وإهدار الدم في أكثرهم غلوا - فيفسدون في الأرض ويحسبون أنهم مصلحون فيها؟!
لقد تَرَدّيْنا - في هذا الزمن الرديء - فأصبحنا نرى بين المسلمين ما نهى الله نبيه عنه، لنجد بيننا مَنْ هو مُسَيْطِرٍ ومَنْ هو مُصَيْطَر. فهم - كتنظيم أصولي عابر للحدود، ذو طبيعة عسكرية يقسم أعضاؤه على السرية والولاء والسمع والطاعة لغير الوطن لا يدخلون مصلحة مصر الوطنية كأولوية في حساباتهم وإنما تحركهم رغبة في فرض الرأي وشهوة للسلطة وأجندات مخفية - قادوا الإسلام في مصر من الوسطية إلى الوهابية، وأطلقوا الإرهاب الديني في مصر منذ أربعينات القرن الماضي، واستخدموا الدين بلا حدود في السعي إلى السيطرة على الناس لخدمة أجندات سياسية غريبة على مصر، وهم التنظيم الأم الذي انبثقت عنه كل التنظيمات السلفية بما فيها تنظيم القاعدة، الذي انتمى مؤسسه أسامة بن لادن للفصيل القطبي من الجماعة.
وهم - كما يشهد تاريخهم على مدى 83 عاما - لم يغيروا أهدافهم ولكن ما تبدل هو استراتيجيتهم كجزء من عملية تسويقية تستهدف قطاعات متباينة من المجتمع، فبينما أدخلوا مؤخرا ألفاظ "الديموقراطية والوطنية" على أدبياتهم "الأصولية" للتمويه، تزيد التنظيمات السلفبة المنبثقة عنهم من تشددها، وهم - ولهم كيانات منظمة في نحو 80 دولة - ما زال يراودهم حلم "دولة الإسلام العالمية" ويسعون لتحقيقه، ويستخدمون الآن ديموقراطية الثورة - كما أعلن قادتهم - "لامتلاك الأرض وفرض الرأي". ولذلك، فهم يتربصون الآن بعشرات الآلاف من مسئولي وموظفي الدولة الوطنيين - من بينهم قامات شاهقة خدمت وطنها في ظل الفساد ورغما عنه - لا يعرفون لهم انتماء آخر غير وطنهم فخدموا مصر بإخلاص واقتدار. وهم يسعون الآن للتخلص منهم - باعتبارهم "فلول" - وإحلالهم برفاق لهم من الجماعة لتحقيق "التمكين" ووأد الديموقراطية التي استشهد من أجلها الشباب الوطني وخرجت مصر كلها.
ما لا تدركه الجماعات الأصولية المتطرفة هو أنها تُسْتَخْدَم - بإرادتها أو بغير إرادتها - كمُفَجّر للمنطقة وجزء أساسي من آليات المخطط الصهيوني طويل الأجل الذي أطلق في بازل السويسرية في 1897، واستغرقت مرحلته الأولى خمسون عاما لإتمامها بإنشاء دولة ليهود العالم في فلسطين وإعلان استقلال إسرائيل، وتتم الآن على الأرض خطوته الأخيرة لتفريغ المنطقة من الدول القادرة على تهديد أمنها - أو حتى إزعاجها - باستخدام "القوة الناعمة" لتحريك الشباب الوطني الغاضب لإطلاق "الثورة" على حكام طغاة وفاسدين - صنعتهم ومكنتهم القوى الاستعمارية - ثم دفع القوى الداخلية المتطرفة لمنع الاستقرار وإطلاق "الصراع المدني" لتفجير المنطقة وتفتيتها وإعادة تقسيمها إلى دويلات دينية وطائفية صغيرة غير قادرة على إزعاج القوى العظمى أو إسرائيل في المستقبل القريب أو البعيد، وتعمل - كأمر واقع - على تأمين إسرائيل وتحقيق نهائيتها كالقوة العظمى بالمنطقة والمركز الدائم للسيطرة عليها كمنطقة نفوذ، ولتنتهي المنطقة كَمَوْرٍد للعمالة الرخيصة وسوق يقارب نصف مليار مستهلك لاقتصاد الإمبراطورية الإسرائيلية التي يكون لنا الفضل الأكبر في ظهورها بالمنطقة، وإلا فلماذا يعلن نتانياهو فجأة استعداد إسرائيل للتعاون مع حكومات إسلامية في المنطقة وهو الذي يرفض حكومة الإخوان المسلمين في غزة؟!
لا شك أن الإطار الدولي المعقد والخطير الذي يحيطنا يتطلب مواجهة المصريين لتداعيات وتحديات ثورتهم بكل فصائلهم مجتمعين ومتوافقين في إطار مصري وطني خالص وبغير استبعاد لأي طرف من الأطراف، حتى يستمدوا من اجتماعهم ووفاقهم ووحدة هدفهم قوة تتطلبها خطورة المرحلة وصعوبة المهمة. إلا أن هذا الوفاق لا يمكن أن يتحقق في ظل الاستقطاب الديني المسيحي والإسلامي والأيديولوجيات المتطرفة والأجندات المخبأة والأفكار التكفيرية والأموال المستوردة والتنظيمات العابرة للحدود الناكرة لحقوق المواطنة ولوحدة النسيج الوطني المصري. ولذلك فإن هناك حاجة ملحة واضحة لأن تبادر الجماعات الأصولية إلى نبذ العنف وفرض الرأي، والاعتذار عن الماضي، وأن تعود إلى الوسطية التي أُمِرْنا بها بقوله تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" [البقرة]، وإلى الاصطفاف الوطني في مواجهة خطر محدق عظيم، وأن يعمل جميع المصريين - بكل فصائلهم- معا في هذا المفترق الحرج للغاية لإنقاذ "مصر التاريخية" من خطر داهم لم يسبق لمصر أن تعرضت لمثله أبدا.
لنتذكر أنه لو صدقت وعود القوى العظمى للشريف حسين فولوه ملك الشام في مطلع القرن الماضي نظير انقلابه على الخليفة العثماني وحربه عليه، لصدقت وعودهم للجماعة اليوم، ولكنهم سارعوا فأصدروا وعد بلفور للصهاينة قبل أن تجف دماء المسلمين. حذاري يا سادة، فالتاريخ يعيد نفسه في وقت اتسعت فيه فجوة القوة كما لم تكن أبدا!
دكتور مدحت بكري