لم يعد خافيا أن الولايات المتحدة الأمريكية التي مارست "لعبة الأمم" لعقود، قد أطلقت العنان لقوتها الناعمة المستخدمة في المواقع الاجتماعية والفضائيات - التي أنتجتها النقلة التكنولوجية الكبرى المتمثلة في تكنولوجيا الحواسب وقواعد البيانات والإنترنت والاتصالات والفضاء - وأحلتها كلما أمكن محل القوة العسكرية التقليدية السافرة كطريقة العمل Modus Operandi - الأقل تكلفة ماليا وبشريا - التي تحقق لها إعادة تشكيل العالم طبقا لأهدافها ومصالحها، وأنها - وإن كانت قد بدأت بحرص في أوروبا الشرقية - فقد منهجتها وأطلقتها في الشرق الأوسط بتزامن وتراتبية في إطار مخطط أعد بعناية، بل وبدأت استخدامها ضد الدولتين الأكبر - الصين وروسيا - وهو ما أنتج مؤخرا ردود أفعال علنية من الدولتين الكبيرتين.
كما أن من المسلم به أن المخطط الدولي المعقد والخطير الذي ندير الموقف الحالي في إطاره ينطلق من حقيقة أن الشرق الأوسط هو منطقة لنفوذ القوى العظمى وأن إسرائيل - التي استأثرت لأكثر من قرن بدعم مطلق من كل قادة القوى الغربية الاستعمارية - هي مركز متقدم لسيطرة القوى العظمى على هذه المنطقة، كما أن قيام إسرائيل لم يكن حدثا وقع في أحد أيام العام 1948، ولكن عملية طويلة الأجل مطردة ومرنة وقابلة للتكيف مع الوضع السياسي الدولي خلال القرن الماضي المفعم بالأحداث والتغيرات الخطيرة للمنطقة والعالم، بدأت بالمؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية في بازل منذ 114 عاما وشارك فيها بكل وضوح قادة الدول العظمى - بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد أمريكا - وما زالت مستمرة.
إننا ندرك أن آلية "الفوضى الخلاقة" هي "عملية" طويلة الأجل من خطوات مطردة تستغرق سنوات لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ارتكزت - قبل ذكاءهم - على غفلتنا وغبائنا وأنانيتنا والخيانة بيننا، وبدأت باستدعاء غضب الجماهير ضد دكتاتور مستبد وفاسد تم تمكينه ومساندته لسنوات، وأتاحت لقلة منتقاه تم دسها بين الشباب التدريب، وللشباب الوطني الغاضب المفتقد للعدالة والكرامة "القوة الناعمة[1]" اللازمة لإطلاق "الثورة"، ثم استغلت التناقضات والاختلافات بين القوى السياسية لاختراق المجتمع وتحريك قوته الذاتية ضده بإذكاء النعرات الدينية والطائفية والتعصب واستقطابه لزعزعة البلد ونشر الفوضى ومنع العودة للاستقرار. وهذه الآلية أيضا ليست جديدة علينا وسبق للولايات المتحدة أن استخدمتها ضدنا قبل أن يتم تطويرها وتدعيمها بالوسائل التكنولوجية المستحدثة.
كذلك فإن من البديهي أن الولايات المتحدة ليست الممارس الوحيد "للعبة الأمم" في مصر والمنطقة ولكنها بالتأكيد اللاعب الأكبر والأقدر. وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بتعيينها كمركز متقدم للسيطرة وحارس على مصالحها في منطقة نفوذها الهامة في الشرق الأوسط، فهي تستعد الآن - بعد أن استكملت حصارها لمصر في أفريقيا والبحر الأحمر - لاستعادة السيطرة على سيناء وربما أيضا اتمام عملية نقل الغزاويين “Transfer” إلى جزء منها، فإن حكومة الملالي في إيران تطل الآن على البحر الأبيض المتوسط مع حلفائها الشيعة العلويين والجعفريين في سوريا ولبنان - وللمفارقة - الإخوان المسلمين السنيين في غزة، وهم - كما نعرف بالتجربة - يثيرون المشاكل في سوريا ولبنان، وفي سيناء وفلسطين، وفي الخليج. كما أن بريطانيا هي من ابتكر "آلية" الدول الدينية والإثنية لاستقطاب شعوب المستعمرات السابقة وإثارة الفتن فيها لمنع نهوضها، وهي من ساندت الحركة الصهيونية بزعامة هيرتزل في فلسطين والحركة الإسلامية بزعامة جناح في الهند وجماعة الإخوان المسلمين بزعامة حسن البنا في مصر - ثم في المنطقة - وأطلقت بإسرائيل وباكستان - بمباركة الصهيونية العالمية - آليتها الخبيثة لإضعاف وتقسيم الدول ويمزقون الآن بها السودان "مركز حوض النيل" إلى جنوب مسيحي وشمال مسلم وغرب إفريقي، ويسعون لتطبيقها في مصر والمنطقة.
لذلك لا يجب أن نصدق رسائل الإعجاب والاستحسان القادمة من الخارج أو نظن للحظة أنهم قد فوجئوا بما أسموه قصدا "الربيع العربي،" فهذا كله جزء من "حيكة السناريو" ونحن بصدد اللعبة الكبرى "لعبة الأمم" وثوابت الأطماع والمصالح الخارجية والداخلية لا تسمح بذلك، والآلية تعتمد على التركيبة المجتمعية وعلى خصائص الفرقاء، وعلى الرغبة في منع عودة مصر للاستقرار ولاستمرار دفعها إلى الفوضى لتصبح الأرض ممهدة لتحقيق أهداف مخطط حقيقي ومعلن لزعزعتها. هذه الأهداف لم تزل كما هي - لم ولن تتغير وإن تغيرت الاستراتيجيات أو التحالفات والأدوات - وهي تؤذن بقرب إسقاط مصر في فتنة دينية هي الخطوة الأخيرة في آلية الفوضى الخلاقة - تبدأ بتولية متطرفين الحكم لتفجير الصراع الديني - وتنتهي بهزيمة نهائية لمصر من الداخل وتقسيم هذه الدولة ذات المقومات العظيمة التي استحالت عليهم بالحروب إلى دويلات على المقاس الصهيوني تصلح لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ولتصل رحلة القرن الصهيونية التي بدأت في 1897 إلى نهايتها وأهدافها طبقا للمخطط الصهيوني بنجاح.
إن من أشادوا بثورتنا وسارعوا إلى تأييدها ووعدونا - مع أتباعهم - بفيض من المساعدات، تبخرت الآن بعد أن نكصوا بوعودهم - وكذلك أتباعهم - يدبرون الآن - مع طابور خامس من قلة قليلة من المجندين المدربين الجدد المدسوسين على الشباب ولكنهم يعلمون بالمخطط ويشاركون في تنفيذه لينشروا الفوضى وينحرفوا بثورة السواد الأعظم من الشباب الوطني النقي العظيم المشارك بالثورة ولا يعلم بالمخطط أو يدرك المخاطر، ومن العملاء القدامى بالتنظيمات السياسية بالداخل الذين ركبوا أكتاف الثوار الشباب وخطفوا ثورتهم - ويسعون الآن - بينما نحن نتوخى أقصى درجات الحذر - لتدمير وتفتيت "مصر التاريخية" وتقسيمها إلى دويلات لا حول لها ولا قوة توفر العمالة الرخيصة وسوق الاستهلاك للاقتصاد الإسرائيلي!
هذا الإطار الدولي المعقد والخطير يتطلب استدعادء المصريين لوعيهم ومواجهتهم لتداعيات وتحديات ثورتهم بكل فصائلهم مجتمعين ومتوافقين في إطار مصري وطني خالص وبغير استبعاد لأي طرف من الأطراف، حتى يستمدوا من اجتماعهم ووفاقهم ووحدة هدفهم قوة تتطلبها خطورة المرحلة وصعوبة المهمة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في ظل الاستقطاب الديني المسيحي والإسلامي والأيديولوجيات المتطرفة والأجندات المخبأة والأفكار التكفيرية والتنظيمات العابرة للحدود الناكرة لحقوق المواطنة ولوحدة النسيج الوطني المصري والداعمة لازدواج الولاء أو تنازعه بين الوطن والدين، وما يصحبها من مظاهر الإثارة الإعلامية والتحريض والتهييج السياسي والديني والحديث عن الماضي وإغفال المستقبل التي يديرها الإعلام بشكل عام والفضائيات بصفة خاصة، والتي تستهدف الحالة النفسية للثائر المصري الغاضب والتركيبة النفسية للمتطرف الإسلامي والمسيحي وضحالة وانتهازية الإعلامي المصري وسهولة انقلابه وتلونه.
يواجه المشير طنطاوي - ومعه المجلس الأعلى الحاكم - الأعلم منا جميعا الآن بمعطيات الموقف الذي وجد نفسه فيه وشملت ما تعرض ويتعرض له من ضغوط خارجية وداخلية، مأزقا جميع معطياته خارج إرادته، سيخرج منه خاسرا مهما كانت قراراته - خصوصا إذا ما اختار طريق السلامة ولم تكن المخاطرة ضمن اختياراته - وهذا ما يسمونه “Catch 22” أو "المسكة 22"، أي المأزق الذي يخرج منه خاسرا أيا كان ما يفعله! ولذلك - ولأن هذا هو ما يجب أن يكون في كل الأحوال - يجب أن يكون الاعتبار الوحيد في اتخاذ القرار هو مصلحة مصر دون الرضوخ لأية ضغوط مهما كان نوعها أو قدرها أو مصدرها، ودون إدخال لأي اعتبارات شخصية أو داخلية أو خارجية - خصوصا ما يتعلق برأي الآخرين في كيفية علاج مصر لمشاكلها - فلا رأي يهم إزاء مصالح مصر وحياتها؛ وهذه مسألة حياة أو موت لهذه الأمة العريقة التي أودعها الله أمانة في عنق المشير والمجلس دونما اختيار.
ولأن المشير - ولا شك - يحاول بكل جهده ألا يخطئ، كان حرصه الشديد سببا في أخطاء قاتلة يجب أن يقوم هو شخصيا بتصحيحها مهما كانت المخاطرة، لأن المخاطرة هي السبيل الوحيد إلى الحلول الفعالة في مثل حالنا. فمن الواضح أن ما توفر للمشير من تحليل ونصح خلال هذه الفترة كان كارثيا، وكانت أهم مظاهر السنة الماضية استعجال القرارات الاستراتيجية ونقص الحزم والحسم في التعامل مع أعراض الفوضى، فجاءت القرارات متسرعة ومفتقدة للموضوعية أو منحازة ولا تحقق المصلحة العامة حين كان يجب أن تكون متأنية وهادئة وموضوعية، وجاءت بطيئة فاقدة لمفعولها ومعناها حين كان يجب أن تكون سريعة وحازمة لتحسم الموقف وتحفظ للدولة هيبتها ومن ثم فعاليتها. ولذلك، ولأننا في مواجهة مع أعتى خبراء وأدوات التحليل واتخاذ القرار، فلا مفر من تغيير فوري لكل من قام بالتحليل ووفر النصح وحيثيات القرار. لقد حان الوقت لمراجعة الحسابات وإعادة تموضع مصر وحمايتها من غفلتنا ومن غدرهم!
دكتور مدحت بكري
[1] وصف جوليان أسانج Julian Assange، مؤسس ويكيليكس Wikileaks المواقع الاجتماعية - فيس بوك على وجه الخصوص - بأنها "أبشع آلة تجسس تم اختراعها على الإطلاق" ووصف جيرالد نيرو Gerald Nero الأستاذ بجامعة بروفانس ومؤلف كتاب "مخاطر الانترنت Dangers of the Internet"، أحدث طرق التجسس التي قامت بها الاستخبارات الاسرائيلية ووكالة المخابرات المركزية على الإنترنت وكشف عن شبكة من مجندين إسرائيليين متخصصين في علم النفس لجذب الشباب من العالم الثالث منذ مايو 2001.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق