الأحد، 19 أبريل 2015

متطلبات المشروع الوطني لإطلاق مصر

دكتور مدحت بكري | مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا | القاهرة في 19 أبريل 2015
 
من الضروري أن يستند المشروع الوطني لإطلاق مصر إلى مشروع للتغيير الشامل، يعالج الركود والتراكم والترقيع في أنظمة الدولة الناتج عن تقادم القوانين ونظم ودورات العمل بمرور الزمن بحيث لم تعد تصلح لمجابهة التغيرات المتنوعة المتلاحقة والمتسارعة في بيئة العمل بتطور التكنولوجيا وقواعد العلاقات الدولية في ظل العولمة ومعاهدات التجارة والنظم المصرفية وانتقال الأموال والبشر ونقل التكنولوجيا والتشدد الدولي في تطبيق قواعد حقوق الإنسان وتشغيل الأطفال وحقوق المرأة والمواطنة، وهو ما يحول التغيير من مجرد حدث لمرة واحدة event لتغيير منظومة قانونية غير ملائمة لمتطلبات التطوير والتحديث، إلى عملية مستمرة process تستجيب للتغير المتنوع المستمر في بيئة العمل، وتبني على مفهوم الإدارة الاستراتيجية الحديثة المرتكزة على رؤية vision شاملة للدولة، وأهداف استراتيجية strategic objectives واضحة، وخطط وبرامج plans and programs يتم تحقيقها في مواعيد محددة سلفا target dates طبقا لاستراتيجيات strategies تعرِف كيفية تنفيذ الخطط والبرامج لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المطلوب تحقيقها في الأوقات السابق تحديدها، وتعرف كميا معايير النجاح.

كما أن من المفهوم أن تتضمن الاستراتيجية الفصل الكامل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإعادة هيكلة الدولة كجزء أساسي في مشروع التغيير الشامل يشمل إعادة الهيكلة المالية بإصلاح سياسة الضرائب والضمان الاجتماعي والدعم، وإعادة هيكلة التنظيم وترتيب علاقات مكونات الدولة ونظمها ودورات العمل والقوانين المعمول بها، بما في ذلك إعادة هيكلة مجلس الوزراء وإدارة الدولة، وإخضاع اختيار الوزراء والمديرين لمعايير تقييم "القدرات والأداء"، وإعادة التقسيم الإداري للدولة، وإنشاء وزارة قطاعية لتكنولوجيا الإدارة والاتصالات والمعلومات، وإطلاق برنامج عاجل للتربية الوطنية وتنمية البشر وبناء القدرات، وإعادة تنظيم الإعلام وهيئات المجتمع المدني، وبحيث يتم إنتاج بناء structure وتطوير عمليات processes لتحقيق وظائف functions وخلق نظام للضوابط والتوازنات checks and balances يتفادى العيوب الهيكلية والتنظيمية ويمنع تداخل السلطات.


فإذا لم تكن للدولة رؤية، أو كانت رؤيتها ناقصة، أو كانت الأهداف والخطط والبرامج والاستراتيجيات والبرامج الزمنية غير محددة بوضوح سلفا، أو إذا عانت من سوء إدارة الوقت، وإذا لم يكن البناء متوافقا مع الدستور ومناسبا لتحقيق هذه الوظائف، أو لم تكن العمليات محبوكة والمجتمع منضبطا، أو إذا اختلت معايير الاختيار والإسناد، أو تعددت "الأجندات"، أو تداخلت الأولويات، أو تاهت الأهداف، أو اختلت قدرة الإدارة على تقدير الموقف واتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب، أو غاب نظام للضوابط والتوازنات، تكون المفارقة والمعضلة، ويكون من الطبيعي ألا يحقق المجتمع ما يطمح إليه وأن يستمر فشل الدولة ويفشل المجتمع في تحقيق أهدافه. وبغير ذلك، ستضطر حكومة "ما بعد الانتقال" لإضاعة وقت ثمين لإعداد الهياكل وتصميم دورات العمليات اللازمة لإطلاق دولة "حديثة" عوضا عن تحقيق الانطلاقة.

كما يبقى نجاح مشروع إطلاق مصر رهنا بتعديل فوري للدستور لتحقيق التوازن بين السلطات واستعادة الرئيس لسلطاته، وبالقضاء على الطابور الخامس وتوجيه طاقات المجتمع للعمل والبناء بدلا من الهدم، وبالاختيار السليم للمشروعات الوطنية الكبرى في إطار الأهداف الاقتصادية لخطة تكاملية قابلة للتنفيذ لنهضة مصر طبقا لبرنامج ذو أهداف محددة ومجدولة وإطار زمني محدد، تأخذ في الاعتبار مقتضيات الأمن الوطني والأولويات الوطنية والأبعاد الإقليمية الأفريقية والعربية، وترتكز على دراسة مقارنة لتكلفة وعائد وصافي القيمة الحالية للفرص المتاحة للمشروعات الوطنية الكبرى ماليا وبيئيا، وتلتزم بصرامة بمقتضيات الأمن الوطني، وتحقق استثمار وتنمية المزايا النسبية والتنافسية للاقتصاد المصري في السوق العالمي، وتتناسب مع موارد الدولة وقدرتها على مجابهة التزاماتها وتحقيق فائض نقدي من تدفقاتها النقدية دون تأثير مضر باحتياطياتها - على غرار توشكى الذي أضاع الوقت والجهد واستنزف الاحتياطي الوطني النقدي والمائي دون مردود ودون محاسبة - وتقارب التنمية على أربع محاور أساسية هي البشر والمياه والقيمة المضافة والتكامل الإقليمي الأفريقي والعربي. فإذا كان من الضروري لاتخاذ قرار بتنفيذ مشروع صغير إجراء دراسة مقارنة لتكلفة وعائد وصافي القيمة الحالية للفرص الأخرى المتاحة للاستثمار، فلا يجوز أصلا التعرض لاتخاذ قرار في مشروع وطني عملاق بمعزل عن المشروعات الوطنية الكبرى الأخرى والفرص البديلة، خصوصا التي تتطلبها مقتضيات الأمن الوطني،

لكل ذلك فإن ما رأيناه من حشرجة في قدرة الحكومات المتعاقبة على الحركة والإنجاز يرجع بشكل واضح ومحدد إلى محاولتها الانطلاق دون إحداث التغيير المطلوب أولا، باعتبار أن الموقف هو عمل كالمعتاد Business as usual. كذلك، فإن من الواضح أن مثل هذا المشروع الوطني للإنقاذ والتنمية لا يمكن أن يتحقق بغير توحد جموع المصريين في تبني أهدافه والمشاركة الفعالة فيه دون استثناء أو تحفظ باعتبار المهمة معركة مصير ووجود تخوضها مصر من موقف ضعيف. ولذلك فإن نجاح المشروع الوطني لإطلاق مصر يبقى مرتهنا بالقناعة الجمعية للمصريين بمساندة رؤية وجهود الرئاسة المتميزة، والمشاركة الفاعلة بالجهد والعمل وإنكار الذات وتأجيل المطالب الفئوية والشخصية لوقت تتوافر فيه الموارد التي ينتجها الجهد المبذول في العمل، اللازمة لتلبيتها. يجب أن نتذكر جميعا أن استجابة المشير السيسي للاستدعاء لتولي مسئولية الوطن في مرحلة بالغة الحرج كانت مشروطة بمعاونته بالعمل وقوله حرفيا "أنا بأصحى الساعة خمسة!"
لقد حان الوقت للعودة إلى شعار "الاتحاد والنظام والعمل" العبقري لثورة 1952، الذي لم نكن أبدا في حاجة أكثر لمعانيه حتى في يوليو 1952، لندرك معنى دعوة الرئيس للمصريين للعمل معه لإطلاق مصر.
دكتور مدحت بكري
مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا
 
 


الأحد، 29 مارس 2015

العاصمة الجديدة... الدراسة والفرص البديلة في ترتيب أولويات المشروعات الوطنية الكبرى

دكتور مدحت بكري | مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا | القاهرة في 26 مارس 2015 | http://medhatbakri.blogspot.com/2015/03/blog-post.html
لا يختلف أحد في أن آلية اتخاذ القرار في مرحلة ما قبل الثورة وقيام دولة الثالث من يوليو قد اتسمت بالمزاجية والانفرادية والعنترية وفرض الرأي بغير مصوغ من العلم والدراسة السليمة والكافية لقرارات مصيرية تمس موارد الدولة الطبيعية والمالية والتزامات ونتائج مستقبلية سلبية تتحملها الأجيال القادمة. وقد أدى ذلك إلى بدء مشروعات غير مدروسة ضاعت فيها مليارات الجنيهات من أموال الدولة المحدودة دون مردود، مثل مشروع توشكى الذي ورطنا فيه رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري، ووقف مشروعات استراتيجية هامة ذات جدوى اقتصادية وأمنية قصوى بعد بدئها مثل مشروع تنمية سيناء الذي أوقف بقدرة قادر بعد تنفيذ الجزء الأكبر من بنيته الأساسية. وبكل أسف استمر التوجه لمشروعات وهمية باهظة التكلفة مثل مشروع ممر التنمية الذي يتبناه الدكتور فاروق الباز وتجاوز التقديرات المبدئية لتكلفته 170 مليار جنيها مصريا (24 بليون دولار أمريكي) بالرغم من معارضة الوزراء المسئولين عن التعمير بدءا بالمهندس حسب الله الكفراوي وعدد من العلميين والمتخصصين والعلماء أبرزهم عالم الجيولوجيا المصري الراحل الشهير الدكتور رشدي سعيد، والرئيس السابق للمعهد الوطني لدراسات الصحراء الدكتور سامر المفتي، وأستاذ الهيدرولوجيا والرئيس السابق لجامعة المنوفية الدكتور مغاوري دياب، والمهندس الاستشاري الدكتور ممدوح حمزة الذين رأوا أن المشروع لا يستند إلى دراسات مقنعة وأن خريطة الموارد الطبيعية بما فيها التربة والمياه الجوفية لا تبرر الاستثمار الهائل في المشروع تحت ظروف وطنية تتسم بنقص السيولة وتفاقم البطالة والفقر وعدم الاستقرار.
ومع قيام دولة الثالث من يوليو بادر الرئيس السيسي، بمجرد توليه المسئولية، إلى اتخاذ قرار "متعلم" بحفر قناة السويس الجديدة وإنشاء شبكة طرق يبلغ إجمالي طولها 3400 كيلومتر، زيدت فيما بعد إلى حوالي 4000 كيلومتر، كلف المقاولين الوطنيين بتنفيذها تحت إشراف الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة لتحقيق السيطرة على الجودة والتكلفة وإدارة وقت التنفيذ في سنة واحدة، وهي مشروعات كثيفة العمالة لازمة لمواجهة فورية لمشكلتي البطالة والعوز لا يمكن أن يختلف عليها أحد، تأتي على غرار ما حدث في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية مشروعات شبكة الطرق الألمانية Autobahn والأمريكية Freeways التي تأسست عليها نهضة البلدين خلال الكساد الكبير Great Depression في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي لتوفر فرص عمل فورية ضرورية لعبور الأزمة الاقتصادية الكبرى وتحفيز النمو بتسهيل الأنشطة التجارية والإنتاجية، والتي تحولا بإنجازها إلى قوى عظمى، وساعدت على عبور ألمانيا المٌدَمَرَة لأزمتها وإعادة البناء لتحقيق نهضتها الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما ينم عن إدراك كامل لمشاكل الوطن وحلولها ومعرفة تامة بأصول الإدارة الاستراتيجية الحديثة. ثم بادر الرئيس إلى تطوير دعوة المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز لمؤتمر للمانحين لدعم مصر إلى مؤتمر عالمي للاستثمار في تنمية الاقتصاد المصري، حقق نجاحا باهرا وبرهن للعالم أن مصر الجديدة تملك الرؤية والاستراتيجية والقيادة اللازمة لتحقيق النجاح.
وبالرغم مما يوفره مشروع العاصمة الجديدة من بنية تحتية متكاملة توفر القاعدة الاتصالاتية والمعلوماتية والطاقة المتجددة المحفزة للإدارة الحديثة، فقد جاء الإعلان عن البدء في إنشاء العاصمة الجديدة في موقعها بين القاهرة الكبرى والسويس والاسماعيلية متسرعا ومفتقدا لنفس اعتبارات الرؤية التي بنيت عليها اختيارات الرئيس لمشروعي حفر القناة الجديدة وإنشاء شبكة الطرق المحققة لتكامل الدولة، مكتفيا بدراسات وزارتي الإسكان والتنمية المحلية وأجهزتها ومستشاريها بما شابهما من فساد - اللتين تديران استراتيجية "إسكان" أدت إلى ما أدت إليه من كوارث عشوائية أهدرت كرامة وإنسانية البشر وأضفت قبحا وحشرا وانسدادا للمدينة، بدلا من استراتيجية "إعمار" ترعى كرامتهم وإنسانيتهم وتسهل حركتهم - الأمر الذي يهدد بتلاحم هذه الكتل في المستقبل "الغير بعيد" لينتج كتلة عمرانية عملاقة Mega City مستحيلة الإدارة - تشغل المساحة بين السويس والاسماعيلية والقاهرة الكبرى (القليوبية والجيزة والقاهرة) ومتجاهلا لضرورة مشاركة لجنة "عليا" من أساتذة وخبراء ومرجعيات تخطيط المدن في الدراسات اللازمة لإنشاء العاصمة الجديدة خصوصا من حيث اختيار الموقع، والتكامل مع البنية المتوفرة فعلا في القاهرة الحالية - على سبيل المثال القصر الرئاسي الفريد القائم فعلا والمباني الحكومية الجديدة والتي يتكلف تكرارها مبالغ باهظة - ومن حيث ترتيب أوليات الاستثمار في ظل الانهيار الاقتصادي والأزمة المالية الخانقة. ولذلك فإن ترتيب أولويات المشروعات الوطنية الكبرى - الذي تجاهله مشروع العاصمة الجديدة - يجب أن يرتكز على دراسة مستفيضة للفرص البديلة تنتج خطة تكاملية متدرجة قابلة للتنفيذ لنهضة مصر طبقا لبرنامج ذو أهداف محددة ومجدولة وإطار زمني محدد، وتتناسب مع موارد الدولة وقدرتها على مجابهة التزاماتها، وتلتزم بصرامة بمقتضيات الأمن الوطني، وترتكز على دراسة مقارنة لتكلفة وعائد وصافي القيمة الحالية للفرص المتاحة للمشروعات الوطنية الكبرى ماليا وبيئيا، وتأخذ في الاعتبار:
·         مقتضيات الأمن الوطني والأولويات الوطنية والأبعاد الإقليمية الأفريقية والعربية
·         استعادة منظومة القيم المجتمعية وعلى رأسها قيمة العمل
·         توفير فرص عمل ضرورية لحل مشكلة البطالة
·         إعادة هيكلة وتنظيم وميكنة الدولة
·         تطوير منظومة إدارة المياه بالدولة باستخدام تكنولوجيات الري الحديثة بدلا من الري بالغمر
·         تطوير منظومة إنتاج وإدارة الطاقة النظيفة بالدولة
·         تحفيز النمو بإعادة التقسيم الإداري وربط المحافظات أرضيا ومائيا وفضائيا لتسهيل الأنشطة التجارية والإنتاجية
·         تحقيق استثمار وتنمية المزايا النسبية والتنافسية للاقتصاد المصري في السوق العالمي
·         تحقيق فائض نقدي من تدفقاتها النقدية دون تأثير مضر باحتياطياتها.
دكتور مدحت بكري
مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا
http://medhatbakri.blogspot.com/2015/03/blog-post.html


الأحد، 15 فبراير 2015

مطلوب تعديل دستوري فوري لتحقيق التوازن بين السلطات واستعادة الرئيس لسلطاته الطبيعية

دكتور مدحت بكري | مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا | القاهرة في 14 يونيو 2014
أدى دستور 2014 الذي أنتجته لجنة الخمسين، لمواءمات وضغوط لسرعة الانتهاء من إعداد دستور وإنجاز خارطة الطريق المعلنة، إلى تقليص معيب في سلطات الرئيس مخالف للنص الدستوري بفصل السلطات يؤدي إلى شل قدرة الرئيس على تحقيق برامجه التي وافق عليها الشعب وأدت إلى انتخابه للمنصب. وبينما كان المقصود هو منع إنتاج دكتاتور جديد، وهو الأمر الذي يرفضه كل المصريين، فقد أدى الدستور الجديد في نهاية الأمر إلى زيادة سلطات السلطة التشريعية "البرلمان،" ومن ثم مجلس الوزراء (أداة التنفيذ) التي تستمد وجودها من الوكيل (البرلمان)، على حساب الرئيس الذي انتخبه الأصيل (كل الشعب) كسلطة تنفيذية أصيلة، ليؤثر على قدرته على تنفيذ وعوده التي تم اختياره لها بالانتخاب الحر المباشر على أساسها وإدارة مصالح الأمة بأمانة في ظرف تاريخي حاسم يتطلب زيادة سلطات الرئيس، عوضا عن تقليصها أو تقييدها بشكل مخل بالمنطق الدستوري والقانوني. وقد كان من الطبيعي أن تفرض وصاية المجلس على الرئيس لو أن البرلمان، وليس الشعب، هو الذي انتخب الرئيس، أما وأن الشعب (الأصيل) هو الذي انتخب الرئيس مباشرة فلا يمكن أن يخضع الرئيس لسلطة البرلمان (الوكيل) الذي يجب أن يقتصر دوره على منح وسحب الثقة من الوزارة والوزراء. ولأن منع استبداد الرئيس لا يكون بمنازعته سلطاته أو شل حركته، ولكنه يكون بنص دستوري وقانون لمحاسبة الرئيس، وسن القوانين التي يعمل في إطارها.
ولذلك، فبينما كانت الوسيلة المثلى لمنع انفراد الرئيس بالسلطة أو إنتاج دكتاتور جديد هي تطبيق "نظام للضوابط والتوازنات" يحقق الفصل الكامل للسلطات، ويكبح تغول أي من سلطات الحكم الثلاث على سلطة أخرى، فيعطي التنفيذ للرئيس الذي انتخبه بالانتخاب المباشر كل الشعب، والتشريع والرقابة للبرلمان، والعدالة للسلطة القضائية، فقد أنتجت لجنة الخمسين بدلا من ذلك دستورا مشوها يؤدي إلى تغول السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، والسلطة التنفيذية على السلطة القضائية.
ومن ناحية أخرى، إذا كان تطبيق مبدأ النسبة والتناسب في أعداد المرشحين بالنسبة لتعداد المحافظات يؤدى إلى سلامة التمثيل السكاني للسلطة التشريعية، فإنه يؤدى في نفس الوقت إلى الإخلال بالتمثيل النوعي بحسب النص الدستوري، وبالتمثيل الجغرافي أيضا، ومن ثم أدى إلى اللجوء إلى زيادة عدد مجلس النواب والأخذ بنظام للحصص والقوائم يغفل الاعتبارات الجغرافية واللوجستية دون أن يحقق ذلك عدالة التمثيل، وإلى استمرار تغول المحافظات كثيفة السكان على حقوق المحافظات قليلة السكان خصوصا الحدودية في الجنوب وسيناء والغرب، والتأثير على معدلات تنميتها ويؤدى إلى تخلفها وفقرها وإلى شعورها بالظلم، ويؤثر على انتمائها الوطني ويهدد وحدة الوطن والأمن الوطني، وهو هدف استراتيجي للقوة الأعظم. وبنفس الطريقة تؤدي الانحيازات المجتمعية الموروثة، والفقر والأمية، والاندماج السكاني وعدم الفرز الديني إلى استبعاد الأقباط المسيحيين والمرأة من العملية الانتخابية ويؤدى إلى تهميشهما.
ولذلك لم ينجح التنظيم الحالي للسلطة التشريعية حتى الآن في تحقيق العدالة الجغرافية ومبدأ المواطنة وتساوي الحقوق ومنع التمييز بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو العقيدة، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة السلطة التشريعية وخلق "نظام للضوابط والتوازنات" ببرلمان من غرفتين يحقق ضمانات للتمثيل وعدالة للمهمشين، ويمنع انفراد غرفة واحدة بسلطة التشريع، وبالتالي يعطي حد أدنى من الضمانات بعدم تغول السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية لأسباب تتعلق بالقواعد الانتخابية السارية التي تنفرد بوضعها غرفة واحدة، كما يوفر من الضوابط والتوازنات ما يحقق حماية للرئيس من انفراد مجلس النواب بسلطة محاسبة الرئيس أو تعطيله. وبدون التساوي في اختصاصات وسلطات المجلسين، وهذه الفروق في تكوينهما لتحقيق التوازن بين المرأة والرجل، وبين الشباب والشيوخ، ولضمان تمثيل الأقلية الدينية والمناطق الحدودية، تستمر السلطة التشريعية في أدائها المنفلت والمتحيز وغير العادل. وهذا النظام هو نظام معمول به لأسباب مختلفة في عدد من الدول من بينها الولايات المتحدة الأمريكية.
من المؤكد أن يحقق برلمان من غرفتين العدالة للمسيحيين وللمرأة وللمناطق الحدودية، بالنص على تمثيل المسيحيين بخمس عدد أعضاء مجلس الشيوخ وتمثيل المرأة بنصف عدد الأعضاء وأن يحقق هذا المجلس أيضا عدالة التمثيل الجغرافي والنوعي بإعطاء كل المحافظات أوزانا متساوية بصرف النظر عن عدد السكان بكل محافظة، وتمثيل كل المحافظات بالتساوي بخمسة أعضاء من كل فئات المجتمع وأحزابه يتم اختيارهم بالانتخاب الحر المباشر بالنظام الفردي لكل محافظة، وأن يكون التمثيل الصحيح للمسيحيين وللمرأة شرطا لصحة الصوت. كما يجب خفض سن الترشح لمجلس النواب لإتاحة فرصة الترشح للشباب اللذين طال ظلمهم وتهميشهم في نظامنا النيابي في الماضي،
وحتى لا يكون المجلس الثاني تكرارا لتجربة مجلس الشورى المغرضة الفاشلة، يجب أن يكون هذا المجلس مجلسا للشيوخ له نفس اختصاصات وسلطات مجلس النواب، لا يقل عمر أعضائه عن 40 عاما مع تخفيض سن الترشح لمجلس النواب ليضمن لشباب الثورة تمثيلا أكبر يعكس دورهم في قيادة معركة تخليص الوطن من أنظمة فاسدة ومستبدة، وأيضا تقديرا للقدر من النضج والوعي الذي اكتسبوه في أربع سنوات. إلا أن عدالة التمثيل الجغرافي ستتطلب إعادة رسم خريطة الحكم المحلي لضمان تمثيل كاف وعادل لكافة مكونات المجتمع المصري المتنوع، خصوصا في المناطق الحدودية الجنوبية والشرقية والغربية التي تعرضت في الماضي للإقصاء والغبن، ومن ثم الإخلال بالحقوق بشكل أدى إلى الشعور بالظلم وأثر على الانتماء الوطني.
وقد حرص الحاكم في مصر دائما على تشويه المفهوم الصحيح للحكومة "Government" وتعريف الحاكم ومجلس الوزراء منفردين "بالحكومة" بالرغم من أن الأصل هو أن مجلس الوزراء هو جزء من السلطة التنفيذية يتبع الرئيس المنتخب انتخابا مباشرا، وأن التعريف الصحيح للحكومة هو "السلطات الثلاث Three Branches of Government" وأن الفصل الكامل للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في مصر هو الضمانة الوحيدة لمنع تغول الحكومة على المواطن ولشيوع العدل وحماية الحقوق. وقد كان وزير العدل، وهو جزء من السلطة التنفيذية، أداة الحاكم للسيطرة على السلطة التشريعية واختراق السلطة القضائية والتدخل فيها، وليكن لنا في خبرتنا الحزينة مع محمد مرسي وإخوانه وإعلانه الدستوري ووزير عدله ونائبه العام الخصوصي وتأسيسيته وشورته وميليشياته عبرة. ولذلك، وحتى نضمن استقلال القضاء ومنعته، ولوقف تغول السلطة التنفيذية والتشريعية على السلطة القضائية، يجب ترسيخ مبدأ فصل السلطات بإعلان الاستقلال التام للسلطة القضائية على الوجه الآتي:
1.       إلغاء منصب وزبر العدل، واستبدال وزارة العدل بوزارة للشئون القانونية والأحوال المدنية تقتصر اختصاصاتها على الاتصال بمجلس القضاء الأعلى، والإشراف على هيئة قضايا الدولة باعتبارها محامي السلطة التنفيذية، وبجميع السجلات المدنية المسندة حاليا لوزارات العدل والداخلية والصحة؛ السجل المدني والشهر العقاري والمساحة والجوازان والجنسية والهجرة.
2.       نقل جميع الاختصاصات العدلية والقضائية وشئون المحاكم والهيئات القضائية وأجهزة الخبرة للمجلس الأعلى للقضاء برئاسة قاضي ينتخبه القضاة بإشراف المحكمة الدستورية العليا، دون أي تدخل من السلطة التنفيذية، يتولى بمجرد انتخابه رئاسة المجلس لفترة واحدة ست سنوات لا تجدد، ويقسم اليمين أمام رئيس المحكمة الدستورية العليا، ولا يكون لرئيس الجمهورية أو أي جهة تنفيذية أخرى أي دخل بإجراءات انتخابه أو توليه المنصب.
3.       ميكنة جميع الأعمال العدلية والقضائية وشئون المحاكم والهيئات القضائية لزيادة كفاءتها وتسهيل إدارتها وإضفاء الآدمية على جميع المشاركين فيها.
4.       فصل ميزانية القضاء عن جميع الأجهزة التنفيذية، مع إخضاعها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية التابعين للبرلمان باعتباره سلطة الرقابة.
5.       تكون موافقة المجلس الأعلى للقضاء والجمعية العمومية لنادي القضاة على التشريعات والقوانين المتعلقة بإدارة شئون القضاء والعدل شرطا لسريان هذه التشريعات والقوانين. 
6.       يكون رئيس المجلس الأعلى للقضاء بحكم منصبه الرئيس التنفيذي المسئول عن تنفيذ السياسات التي يقرها المجلس الأعلى لإدارة شئون القضاء.
 

دكتور مدحت بكري

مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا



الاثنين، 26 يناير 2015

للبعض أقول كفانا غفلة، وللبعض كفانا خيانة

 

دكتور مدحت بكري | مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا | القاهرة في 28 يناير 2015            

أعجب لمن يخلعون الأحداث من إطارها الدولي ويصدرون أحكاما مطلقة بإدانة الشرطة لمقتل "شيماء" دون تحقيق، ويدينون الدولة المستهدفة لتطبيقها قانون "تنظيم التظاهر" ويتصلبون في آرائهم ومواقفهم المسبقة وكأنهم يملكون الحكمة والحقيقة المطلقة دون غيرهم، وأدعو الله أن يعلق أمانة الدولة في رقابهم لنرى ماذا هم فاعلون إزاء قتلة مأجورين يجوبون البلد لقتل المصريين غيلة وغدرا بقنابل ورشات من أسلحة آلية لا تميز. لماذا لا نجد بينهم من يزعجه قتل المصريين ورجال أمن يحمونهم، وأتساءل لماذا لا يقدرون أن القتلة المأجورين هم من قتلوا "شيماء" حتى يسارعوا هم إلى لوم "الأمن" وتوتير البلد.

يجب أن يفهم هؤلاء، والفضائيات التي تطلقهم علينا، أن آراءهم تحتمل الخطأ والصواب، وأن لا حصرية للرأي في الديموقراطية التي يتشدقون بها، وغير ذلك هو ما يعيدنا إلى الماضي. كذلك فإن ترك الأمور للفوضى المخططة التي يديرها أعداء المصريين لتدمر البلد جريمة يحاسب عليها ولي الأمر. ولذلك فإنني أدعو الرئيس السيسي لاستبدال "قانون تنظيم التظاهر" بنص مترجم للقانون الأمريكي "Patriot Act" الذي يغتال كل الحريات حتى تتطابق ديموقراطيتنا مع ديموقراطيتهم "ومحدش أحسن من حد."
نحن يا سادة مستهدفون، وهدفهم الاستراتيجي هو تدمير وتفتيت مصر والمنطقة كلها. فلم يعد من المقبول "للعدو" بعد أكتوبر 1973 ترك الأمور للظروف، ولذلك كان اغتيال الداهية محمد أنور السادات ثم "مشروع الشرق الأوسط الكبير" المحوري الذي مهد له وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر Henry Kissinger ثم زبيجنيو بريجينسكي Zbigniew Brzezinski مستشار  الأمن الوطني الأمريكي في إدارة كارتر Jimmy Carter خلال الفترة 1977 - 1981، والذي أعدته - أو شاركت في إعداده - الحركة الصهيونية العالمية وقدمه الزعيم الصهيوني المعاصر برنارد لويس Bernard Lewis للكونجرس الأمريكي في ثمانينات القرن الماضي، وطوره Richard Perle المشارك في تدمير العراق مع مجموعة المستشارين الصهاينة الأمريكيين في تسعينات القرن الماضي لتحويل المنطقة إلى أرض مسطحة مستهلكة توفر العمالة الرخيصة وسوق الاستهلاك لجبل واحد منتج Mt Israel. ويعد أن أنذرت حرب تحرير الكويت ببدئه، تبنته وبدأت تنفيذه إدارة بوش الصغير GW Bush باحتلال العراق، واستكملت تنفيذه إدارة أوباما Barak Obama، والذي يهدف إلى تفجير وتفتيت وتقسيم دول المنطقة وإعادة ترتيبها، ويعد تطويرا طبيعيا - وفي أغلب الظن نهائيا - لضبط تقدم المشروع الصهيوني "طويل الأجل" لإنشاء الدولة الصهيونية كحاملة طائرات أمريكية ضخمة Self-sustaining Mega Aircraft Carrier على الأرض في قلب المنطقة، ويمثل "إطارا دوليا جديدا - بديلا لاتفاق سايكس بيكو   Sykes-Picotلإدارة المنطقة في الألفية الجديدة."  
دكتور مدحت بكري


السبت، 20 سبتمبر 2014

بل مشروع أمن وطني تنموي استراتيجي يا أستاذنا العزيز!

ردا على مجرد رأي للأستاذ صلاح منتصر في 17-9-2014...  
دكتور مدحت بكري | مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا | القاهرة في 19 سبتمبر 2014
بنى الصهاينة إسرائيل على عقيدة عسكرية راسخة بأن "المستعمرات قبل المدرعات" فقد فهموا - ولم نفهم - أن الفراغ يتم ملأه، وأن البشر هم من يملأ الفراغ. وملأوا النقب وحافظنا على "فراغ" سيناء والبحر الأحمر، وكأننا نخطط لهم ليملئوا فراغنا. والغريب العجيب أن بعضنا ما زال لا يفهم حتى بعد أن "انتهى الدرس!" فبعد ثلاثة أرباع قرن، ما زلنا نترك جبهتنا الشرقية المهددة فارغة خاوية تنتظر من يملأها، حتى أننا نسينا ما حدث للرادار المتقدم الذي زرعناه في ستينات القرن الماضي في خواء محافظة البحر الأحمر، فجاءوا وحملوه معهم وفقدنا قدرتنا على الرؤية، وكانت فضيحة عسكرية وطنية!
ومع أن الله قد حبا مصر المحروسة بساحل على بحرين في ملتقى ثلاث قارات يتجاوز طوله 2000 كيلومتر، ونهر عظيم يتجاوز طوله على أرضنا 1000 كيلومتر، يأتي اليوم من يقول إن حياة الناس على "النهر العذب تختلف تماما عن بيئة الساحل ومشاكله وحياة الناس على البحر المالح." بل أنه استرسل "وكأنها عملية توزيع للشاطئ السياحي الجميل على محافظات الصعيد مما ستكون نتيجته تصدير مشكلات الصعيد إلى البحر الأحمر" وإن لم يقل بأن علينا التخلص من الساحل حتى لا يختلط الماء العذب بالماء المالح! أو أن الدول ذات الأنهار لا يجوز أن تطل على البحار حتى لا يتلخبط الناس! ولكن "الأستاذ هيكل قال إنه يعرف عددا من الاقتصاديين ورجال الأعمال عبروا في اجتماع لهم مع المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء عن هذه الآراء والمخاوف، وكان رده أنه مع تقديره لهذه الآراء... لكن هذا مشروع سياسي."
وأنا أقول لدولة رئيس الوزراء "بل مشروع أمن وطني تنموي استراتيجي" أنتجه رجل متعلم وخريج وقائد سابق لقوات مسلحة "مصنفة" يعرف كيف يقدر اعتبارات الأمن الوطني وكيف يدير استراتيجية تنموية،" ولكن الدوافع الحقيقية لهؤلاء الاقتصاديين ورجال الأعمال هي المحافظة على أوضاع احتكارية فاسدة عرفوا مفاتيحها واستقرت لهم في محافظة البحر الأحمر، ولا يريدون لها أن تتفرق اليوم على محافظات جديدة عليهم أن يعيدوا فتحها جميعا! وسؤالي للأستاذ صلاح منتصر: هل هناك على وجه هذه الأرض شيئا واحدا لا يعرفه - أو على الأقل لا يفهمه - "الأستاذ" هيكل، ولا يستطيع أن يبدي فيه رأيا؟ فلم تعد القوات المسلحة جيش "تشريفة" ولكنها أصبحت مدرسة مصنفة عالميا للاستراتيجية وعلوم الحرب والإدارة والإمداد والتحريك. لا تضيع وقتك ووقت الدولة مع هؤلاء يا دولة رئيس المجلس، فدوافعهم غير دوافعك، وأهدافهم غير أهدافك.
لقد أدى التقسيم الإداري الطولي للدولة (من الجنوب إلى الشمال) وخلو المنطقة من النهر إلى الساحل الشرقي من شبكة للطرق إلى تكدس الكتلة السكانية في الشريط الضيق على جانبي النهر جنوبا وفي دلتا النيل شمالا، كما أدى شغل محافظة البحر الأحمر الموازية للنهر لطول الساحل الشرقي إلى خواء على امتداد البحر الأحمر والصحراء الشرقية، والظهير الصحراوي الغربي للجانب الغربي للنهر إلى عزوف المواطنين عن استغلال هذه المناطق بما فيها الساحل، وإلى الاجتراء على الأرض الزراعية وامتهان النهر الذي كان مقدسا. ولأن الفقر وندرة فرص العمل بالأطراف طارد إلى المركز، كما أن مركزية القرار والسلطة والوفرة النسبية لفرص العمل جاذب للمركز، فقد أدى كل ذلك إلى الهجرة إلى المراكز الحضرية، وبصفة خاصة القاهرة، وظهور العشوائيات، إلى آخره من تزاحم وفقر واختلالات قاتلة في التعليم والصحة والإسكان والنظافة.
ولذلك مثل المشروع "العبقري" الذي قدمه الرئيس لإعادة التقسيم الإداري للدولة على محاور عرضية تمتد عرضا من الصحراء الغربية غربا إلى البحر الأحمر شرقا لتخدم مشروعات تنمية الموارد الطبيعية بالصحراء الشرقية، فرصة لإعادة توزيع السكان والمحافظة على الأرض القديمة واستثمار أراض جديدة لاستغلال مواردها الطبيعية عل امتداد الوادي شرقا حتى الساحل وغربا إلى الطريق الجديد لربط المحافظات. إلا أنه سيكون من الضروري إتمام الوزارة الجديدة لتكنولوجيا الإدارة والاتصالات والمعلومات لمشروع الحكومة الإلكترونية المتعثر بلا سبب لسنوات لتحقيق التواصل بين الأطراف والمركز، حتى يمكن للمحليات والأفراد إتمام جميع الخدمات دون حاجة لتواجد المواطن المباشر بالمركز وليحقق إعادة التقسيم الإداري الجديد للدولة هدفه في وقف الهجرة إلى المراكز الحضرية وإعادة توزيع السكان بنجاح.
إلا أن تأثير إعادة ترتيب الخريطة الإدارية للدولة لا يمكن أن يكتمل دون إعادة هيكلة الدولة للتأكيد على قدرة الهياكل على تحقيق الوظائف، وتطبيق معايير اختيار سليمة لضبط الأداء، وإعادة النظر في منظومة القوانين التاريخية المتعارضة والمتهالكة، والتخلص من المعوقات التنظيمية والإجرائية، ووضع الاستراتيجيات القادرة على تحقيق الأهداف، وإعادة تصميم وتطبيق دورات العمليات بإدارات الدولة وميكنتها لتحقيق كفاءتها وتواصلها، وتشغيل الحكومة الإلكترونية لتحقيق التواصل والكفاءة، ولينتهي الإعداد للانطلاق وليبدأ الانطلاق في أقرب وقت، وهو ما لم - ولن - يتحقق إلا إذا نظر رئيس المجلس وأعضاء الوزارة إلى مهمتهم من خارج الصندوق الذي طال استخدامه لإنتاج نفس النظم والجزر المنعزلة وإدارتها في حلقة مفرغة بنفس الشخصيات - أو مثلهم - من "العواجيز" الذين سبق أن أخفقوا في إحداث أي تقدم في مسيرة الوطن.


الأربعاء، 20 أغسطس 2014

هل ينطبق النموذج الفيزيائي على المؤامرة الصهيونية الأمريكية على المنطقة؟

دكتور مدحت بكري | مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا | القاهرة في 11 أغسطس 2014   
بعد مرور قرابة 45 شهرا منذ أحداث 25 يناير 2011 التي أسفرت عن "تخلي" الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عن الحكم في 11 فبراير 2011، وإسناده مهمة إدارة الدولة للمجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي، ما زال المجتمع مختلفا على طبيعة ما قد حدث... "ثورة أم مؤامرة"... "سلمية أم غير سلمية"، بل بدأ صراع بين أطراف جانب "الثورة السلمية" على من هو صاحبها. ثم انتقلت هذه المناظرة إلى محاكمة القرن، فرأتها "ثورة" النيابة العامة، لدوافع مختلفة منها ولاية النائب العام "الإخواني" عليها أثناء إعداد الادعاء، ورآها الدفاع "مؤامرة" كاملة الأبعاد. فهل حان الوقت لحسم طبيعة ما حدث لمصر؟
الواقع أنها "ثورة" شعبية، أشعلتها "مؤامرة" بين طرفين خارجي وداخلي، بدأها "عملاء" من المجتمع المدني للطرف الأجنبي مولهم ودربهم بالخارج والداخل ليتم استخدامهم كأدوات لإحداث الثورة، وليختطفها في النهاية، بتخطيط مسبق مع الطرف الأجنبي، الطرف المحلي في المؤامرة... "جماعة الإخوان"، وليخرج "من المولد بلا حمص" العملاء من الشباب الذين ظنوا أنفسهم شركاء فانتظروا اقتسام الغنائم، فتم استبعادهم تماما وأخرجوا، كعملاء بالأجرة، من المشهد الذي ظنوا أنهم شركاء فيه "بخفي حنين"، ليخيب أملهم ولتتعاظم مرارتهم ويستمروا في إثارة مزيد من الفوضى والسيولة في البلد، وهو الهدف الأساسي للمؤامرة. ولكن كيف؟
كان ما حدث في 25 يناير 2011 سلسلة من الأحداث التي أنتج فيها كل حدث الحدث التالي أو أثر فيه بسلسلة من ردود الفعل المستمرة المتسارعة chain reaction، وهي العملية التي تنتج منتجا أو منتجا ثانويا نشطا يؤدي إلى حدوث سلسلة إضافية من ردود الفعل، ويؤدي رد الفعل المرتد feedback إلى سلسلة من الأحداث المتزايدة ذاتيا، كأن يؤدي نيوترون طائش واحد إلى حدث تلقائي حرج يكفي لانهيار مفاعل نووي أو انفجار قنبلة نووية، أو تؤدي منتجات "نشطة"، في ظروف محفزة لتفاعل كيماوي إلى حدوث ردود فعل إضافية. كما يمكن تشبيه سلسلة ردود الفعل chain reaction، بالشرارة التي تسبب حريق الغابة في عاصفة برقية، أو كرة الثلج التي تتدحرج وتنمو نتيجة لطاقة الجاذبية الكامنة، لتحدت في النهاية انهيارا جليديا Avalanche، فيما يسمى "تأثير كرة الثلج"، أو التصادم التراكمي في حوادث الطرق السريعة.
وقد نشأ مصطلح chain reactions في العلوم الفيزيائية؛ أولاً في الكيمياء في الثلث الأول من القرن العشرين، حيث تم وصف التفاعلات الكيميائية المسلسلة واقتراح آليتها، ثم في الفيزياء في الأربعينات، حيث يؤدي انشطار نواة، كرد فعل لدخول نيوترون بطيء إليها في ظروف كمية مناسبة إلى chain reaction nuclear مستمر ذاتيا أو انفجاري، ثم انتقل المصطلح للاستخدام العام في مختلف المجالات لانطباقه، شأن النظريات العلمية، على الحياة ككل. ففي الستينات، وصف فريدمان حلقة تغذية مرتدة إيجابية positive feedback loop كآلية لإخفاقات كارثية في الاقتصاد، حيث تؤدي أزمة سيولة في وحدة نظام احتياطي مصرفي إلى بدأ عملية تراكمية لسلسلة من ردود الفعل تنتهي بانهيار اقتصادي. وفي بداية القرن الحالي، أدى انهيار فقاعة الائتمان الإسكاني في الولايات المتحدة إلى الانهيار الاقتصادي العالمي. ويمتد المثال إلى قضايا التعويضات، حيث يؤدي صدور حكم ضد شركة ما بدفع تعويض ضخم لأحد المتضررين من نشاطها إلى chain reaction من قضايا تعويض جديدة يرفعها آخرين، انفراديا أو جماعيا، ضد الشركة، وهكذا...
ولعل من المفيد أن نقارن ما حدث في 25 يناير 2011 بآلية تفاعلات السلسة الكيمائية chain reactions chemical التي تبدأ بإثارة جزيء، بحيث تنتج اثنين أو أكثر من الجزيئات الغير مستقرة، ويؤدي إلى تفرع ونمو السلسلة. والنتيجة في الواقع نمواً أُسياً متسارعا، يؤدي إلى زيادة انفجارية في معدل التفاعل، بل يؤدي تحت الظروف المناسبة إلى التفجيرات الكيميائية. وتبدأ هذه التفاعلات بخطوة بدء التفاعل Initiation step، التي تنتج جسيمات نشطة، تؤدي إلى عملية التفاعل Propagation step التي تشمل العديد من الخطوات الأولية، حيث تكون الجسيمات النشطة نوع آخر من الجسيمات النشطة التي تكمل سلسلة التفاعل التي يتحدد معدلها بظروف التفاعل وتؤدي إلى تفرع السلسلة وتكوين جسيمات نشطة جديدة أكثر من الداخلة في التفاعل، وليصل التفاعل إلى نهايته بخطوة الإنهاء Termination step وهي خطوة أولية تخسر فيها الجسيمات "النشطة" نشاطها لينتهي التفاعل.
فقد بدأ الإعداد لمشروع تفجير مصر والمنطقة بعد نصر أكتوبر مباشرة بما بدا كشهر عسل أمريكي- مصري، بدأ بزيارة نيكسون لمصر وتقارب سياسي بدا أنه تصحيح لما كان من انحياز لإسرائيل، ثم باتفاقيات المعونة الأمريكية وبرامج التعاون للوصول إلى حالة مفتعلة من الاعتماد المصري على المعونة الأمريكية، مصاحب بزيادة هائلة - غير متناسبة - في حجم هيئة المعونة الأمريكية والبعثة الدبلوماسية "الاستخباراتية" في القاهرة، وظهور سريع وانتشار واضح لنوادي الروتاري والليونز والغرفة التجارية الأمريكية واستقطابهم لرجال الأعمال الجدد المشبوهين الذين ظهروا مع الانفتاح الاقتصادي وخلق علاقات ومصالح مشتركة معهم، وهو ما أدى إلى توحش مجتمع الأعمال وانصرافه عن المصالح الوطنية إلى المصالح الخاصة، وإلى ظهور تحالفات متوحشة بين الحزب الحاكم ورجال الأعمال انتهت باستيلائهم الفعلي على وزارات حاكمة للنشاط الاقتصادي، فاتسعت الهوة بين الغنى والفقر وزاد الإحساس بالظلم والغضب بين الطبقتين المتوسطة والفقيرة طبقا للمخطط، وتم التمهيد لإطلاق chain reaction الثورة.  
يجب أن ندرك أن آلية "الفوضى الخلاقة" هي "عملية" طويلة الأجل من خطوات مطردة تستغرق سنوات لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ارتكزت - قبل ذكاءهم - على غفلتنا وغبائنا وأنانيتنا والخيانة بيننا، وبدأت باستدعاء غضب الجماهير ضد دكتاتور مستبد وفاسد قاموا هم بتمكينه ومساندته لسنوات، ثم أتاحت المال والتدريب لقلة منتقاه من "النشطاء" المدربين والممولين - هم المقابل للجزيئات النشطة في تفاعلات السلسلة chain reactions - تم دسهم كطابور خامس بين الشباب، و أتاحت للشباب الوطني الغاضب المفتقد للعدالة والكرامة "القوة الناعمة[1]" اللازمة لإطلاق "الثورة المخططة"، ثم استغلت التناقضات والاختلافات بين القوى السياسية وإعلاميين من ضعاف النفوس لاختراق المجتمع وتحريك قوته الذاتية ضده بإذكاء النعرات الدينية والطائفية والتعصب واستقطابه لزعزعة البلد ونشر الفوضى ومنع العودة للاستقرار. واليوم، وبدلا من النظر إلى المستقبل، كلما ما بدا ان مصر تقترب من الهدوء والاستقرار، يزداد تصايح "النشطاء" المدفوعين وعنفهم باعتبارهم ثوارا فوق الحساب لهم كل الحقوق، ولسان حالهم أن لن ندع هذا الوطن يهدأ أبدا، وكأن الانتقام من مبارك أو التنكيل به أهم من بقاء مصر وحياة المصريين، ولتستمر حالة السيولة ويتم تفجير البلد وهو الهدف الأساسي للمؤامرة.  
لذلك لا يجب أن نصدق أو نظن للحظة أنهم قد فوجئوا بما أسموه قصدا "الربيع العربي،" فهذا كله جزء من "حيكة السناريو" ونحن بصدد اللعبة الكبرى "لعبة الأمم" وثوابت المصالح الخارجية والداخلية لا تسمح بذلك، والآلية تعتمد على التركيبة المجتمعية وعلى خصائص الفرقاء، وعلى الرغبة في منع عودة مصر للاستقرار ولاستمرار دفعها إلى الفوضى لتصبح الأرض ممهدة لتحقيق أهداف مخطط حقيقي ومعلن لتفجيرها. هذه الأهداف لم تزل كما هي - لم ولن تتغير وإن تغيرت الاستراتيجيات أو التحالفات والأدوات - وهي تؤذن بقرب إسقاط مصر في فتنة جديدة هي الخطوة الأخيرة "المعادة" في آلية الفوضى الخلاقة التي يريدون أن تنتهي بهزيمة نهائية لمصر من الداخل وتقسيم هذه الدولة ذات المقومات العظيمة التي استحالت عليهم بالحروب إلى دويلات على المقاس الصهيوني تصلح لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ولتصل رحلة القرن الصهيونية التي بدأت في 1897 إلى نهايتها وأهدافها طبقا للمخطط الصهيوني بنجاح.
يجب أن نفهم أن وقف سلسة التفاعل ومنع التفجير المخطط لمصر يتطلب تحقيق خطوة إنهاء التفاعل Termination step وهي خطوة لا تتحقق إلا بخسارة الجسيمات "النشطة" لطاقتها، وفي الفوضى الخلاقة بالقضاء على "النشطاء المدفوعين" المدربين والممولين واختفائهم من المسرح فورا!
دكتور مدحت بكري
مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا


[1]وصف جوليان أسانج Julian Assange، مؤسس ويكيليكس Wikileaks المواقع الاجتماعية - فيس بوك على وجه الخصوص - بأنها "أبشع آلة تجسس تم اختراعها على الإطلاق" ووصف الأستاذ بجامعة بروفانس جيرالد نيرو Gerald Nero مؤلف كتاب "مخاطر الانترنت Dangers of the Internet"، أحدث طرق التجسس التي قامت بها الاستخبارات الاسرائيلية ووكالة المخابرات المركزية على الإنترنت وكشف عن شبكة من مجندين إسرائيليين متخصصين في علم النفس للإيقاع بالشباب من العالم الثالث منذ مايو 2001.