كان للحكم في مصر دائما - الملك المصري قبل 1952 ثم الرئيس المصري بعد 1952 - طموحا عظيما لتنمية مصر وتحويلها - كالعادة - إلى قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية فاعلة على المسرح الإقليمي. وكان هذا من أسباب وأهداف الثورة التي قام بها الجيش ضد الملك، إلا أن أنها لم توفر العمق والنضج اللازمين لترجمتها إلى استراتيجيات وآليات وبرامج لتحقيق قدرات ومن ثم نتائج اقتصادية أو عسكرية محددة، حيث اقتصرت الرؤية على افتراض خاطئ بأن القوة الاقتصادية والعسكرية تتحقق بمجرد تكوين الأصول بشراء المصانع والمعدات للتصنيع أو الدبابات والطائرات والأسلحة والذخائر للتسليح، بينما القياس الحقيقي يكون بمعاملات كفاءة الاستخدام ومؤشرات الأداء المبنية على كفاءة إدارة المنظومة الصناعية أو العسكرية. ولذلك فاقت قدرات المقاتلة الإسرائيلية في حرب يونيو 1967 عشر مقاتلات مصرية، وظن الرئيس أن العالم كله - وليس إسرائيل - قد هاجم مصر، على خلاف ما حدث في حرب أكتوبر 1973. وفي التنمية، توازت مراحل التطور في مصر - التي بدأت بالتصنيع ثم الخصخصة ثم الانفتاح والعولمة - معها بالدولة الصهيونية. وإذا كانت نقطة البداية قد تميزت في مصر فقد تميزت الإدارة في إسرائيل، ولذلك جاءت النتائج لصالح الدولة الصهيونية بشكل حاسم، وهو ما يسجل على النظام في مصر.
كذلك، شكلت الاعتبارات "الشخصية" للحاكم المصري المرتكز الأهم في رسم السياسات الخارجية وتطوير علاقات مصر مع العالم، وخصوصا دول المحيطين الإفريقي والعربي منذ 1952. وفي البداية، ساندت ثورة 1952 - كحركة ثورية - الحركات التحررية لكل الشعوب حول العالم ووجهت انتباها خاصا لمساندة الشعب الفلسطيني والحركات التحررية لكل الشعوب الإفريقية والعربية التي رزحت تحت الاستعمار القديم. إلا أن النظام الجديد لم يكن مؤهلا لتطوير الأهداف والاستراتيجيات الناضجة المتسقة مع المصالح المصرية على المديين القصير والطويل، فلم يستثمر في علاقات وشراكات مستدامة تحقق المصالح المشتركة وتزيد قوة الارتباط على مستوى القارة أو حتى في نطاق حوض النيل الحيوي، واقتصر على لعب دور "المحرض الثورجي المفسد" وعلى التأييد المعنوي ببعض مواقف للرئيس عبد الناصر في مرحلة التحرير وما تيسر من التأييد المادي بتوفير الملاذ وبعض السلاح للثوار، وهو ما اسفر في حينه عن قفزة هائلة في شعبية الرئيس عبد الناصر محليا وإقليميا وحوله إلى شخصية عالمية أسطورية، ولكنه أدى أيضا إلى اعتباره نظاما معاديا للقوى العظمى وأسفر عن إجراءات مضادة أهمها تسريع دعم إسرائيل عسكريا بتوفير السلاح المتطور والتكنولوجيا المتقدمة بما فيها التكنولوجيا النووية العسكرية، ثم العمل العسكري المشترك والعدوان الثلاثي في 1956.
وقد أسفرت القفزة الهائلة في شعبية الرئيس عبد الناصر عربيا بعد عام 1956 عن تحول في اهتمامات وتوجهات النظام في مصر لخدمة أهداف الرئيس في الزعامة العربية وتراجع الاهتمام بالمصالح المشتركة مع الدول الإفريقية، بما في ذلك المصالح الحيوية مع دول المنابع في حوض النيل. وفي نفس الوقت الذي كرس فيه الرئيس الوقت والجهد والمال لدفع مفهوم القومية العربية تأسيسا على وحدة اللغة والدين، لم تحظ الدول الإفريقية أو دول حوض النيل أو حتى إثيوبيا التي تنبع منها تسع أعشار مياه النيل التي تصل دولة المصب، والتي انتمى مسيحيوها للكنيسة القبطية ومسلموها للأزهر كان من الممكن أن تؤسس - مع وحدة الجغرافيا والمصالح - لعلاقات خاصة للغاية مع مصر، عوضا عن تباعدها الحثيث وعملها الدؤوب مع إسرائيل ضد مصالح مصر المائية. واليوم، لا يجد الأخوة الأفارقة في دول المنابع - الذين فطنوا أخيرا إلى قيمة المياه لمشروعهم التنموي - أثرا لمصالح مشتركة مع مصر أو حتى دورا لها في حياتهم إلا بعض شعارات عن الاستعمار غير مجدية وغير مستدامة للرئيس عبد الناصر في زمن مضى وولى قد لا تدركه ذاكرة هذا الجيل أصلا. وبينما مارست مصر لسنوات طويلة ترفا مائيا علنيا استنادا إلى اتفاقيات وقعها الاستعمار القديم، يموت أبناءهم جوعا وعطشا دون أن توفر مصر - لعشرات السنين - دعما فنيا تستطيعه أو مشاركة أو تكاملا مع دول الإقليم لتفيد ونسنفيد، ولتجد إسرائيل منفذا صنع في مصر لإيذاء مصر في أعز ما تملك؛ المياه.
أي أن مصر لم تكن أبدا في موقف أشد حرجا مما هي فيه اليوم في الإطار الدولي الجديد، تحيط بها من كل اتجاه أخطار وأطماع غير مسبوقة، سبببتها سياسات النظام القاصرة تجاه المحيط الإقليمي. ففي الجنوب يستمر التآمر على وحدة ما بقي من السودان بعد انفصال الجنوب لتفتيته وتقسيمه، وتنازع دول حوض النيل - متعددة الموارد المائية - السودان ومصر - الصحراوية غير المطيرة على مياه النيل التي تشكل المصدر المستدام الوحيد للحياة فيها، خصوصا بعد أن أصابت مشكلة التضخم السكاني مصر بالفقر المائي للمرة الأولى في التاريخ - بينما رأيناها دائما مجرد مشكلة اقتصادية واجتماعية - وانخفض نصيب الفرد انخفاضا كارثيا من ~4000 م3/سنة في 1950 إلى ~700 م3/سنة في 2010، فحل بها الفقر المائي (< 1000م3/سنة) ويستمر التراجع مع الانفجار السكاني بحيث يتهددها الآن الجفاف والعطش والمجاعات، أو حروب مياه مدمرة. وفي الشرق أضيفت الأطماع الحمساوية في أرض مصر - برعاية إيرانية وإسرائيلية وأوربية وأمريكية وإخوانية - إلى الحالة الصومالية وإلى ضغوط وأطماع إسرائيل، التي ما زالت تمثل القاسم المشترك لمشاكل مصر الإقليمية بالرغم من اتفاق السلام الموقع بينهما.
وكأنما لنزيد مشاكلنا تعقيدا، أسأنا الاختيار عندما انفجرنا سكانيا في ظل نظام غافل، فاستمر التكدس السكاني والتزاحم في الأرض القديمة - أرض الأجداد والأحفاد - فتآكلت الأرض الطيبة أمام التوسع العمراني العشوائي، بحيث أصبحت دلتا النيل للناظر من السماء كرئة أصابها درن! وضاق بنا الوادي فاتجهنا إلى قلب الصحراء وتركنا الساحل حيث الرطوبة وحيث الأمطار - على قلتها - وبينما تعاني مصر من الفقر المائي الذي سببه الانفجار السكاني، وجهنا مياه النيل بالرفع بإحدى أكبر محطات الضخ إلى توشكى الأكثر قسوة وقحولة وهشاشة في العالم بدلا من أن توجهها إلى الساحل الشمالي الغربي وسيناء بالانسياب بالانحدار الطبيعي لاستكمال الري بمياه الأمطار القليلة المتساقطة على الشمال التي لا تكفي حصيلتها الزراعة المنتظمة فتضيع - مع ما يضيع من مخزون المياه في صحراء توشكى - وتطرح من حصيلتنا المائية عاما بعد عام، وتبقى سيناء مطمعا بغير سكان يدرؤون عنها الغزاة والطامعين.
ومن داخلنا، لم تقدم التنظيمات الدينية والأحزاب السياسية - التي انشغلت بالصراعات بداخلها وفيما بينها بعد أن أعادها الرئيس السادات مع إطلاقه للحزب الوطني الديموقراطي - بديلا فاعلا أو مقبولا للحزب الحاكم الذي ترأسه والذي ظفر منفردا بالأصول والأموال التي منحها النظام للحزب الواحد الذي تغير اسمه دون مضمونه على مر السنين من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي، فاستمرت شموليته وبقي مكبلا بالفكر المَحدود والمٌحَدِد لأعضاء انتهازيين سيطروا عليه حتى بداية العقد، فمنع انطلاق البلد وأنتج طبقة من أثرياء جدد - لا تعرف مصادر ثرواتهم ومشكوك في التزامهم المالي للدولة ولا تحاسبهم الدولة ولا تقتضي حقوق الناس منهم - ضاعفوا حجم الهوة بين الغنى والفقر فتعاظم التفاوت الاقتصادي لحدود أثارت السخط العام وأصبحت تهدد الأمن الاجتماعي وتنذر بانفجار. وكأنما لم يكفي الحاكم كل التوتر الاجتماعي الذي أنتجته الهوة بين الغنى والفقر فتناسى درس الثورة العرابية واتجه إلى توريث الحكم، فأصبحت الدعوة إلى التغيير في مصر قاسما مشتركا بين فرقاء مختلفين لا تجمعهم رؤية مشتركة، وانطلقت ثورة 25 يناير التي قادها الشباب المتعلم لتوقظ مصر من غيبوبة مصطنعة.
واتبعت حكومات النظام السابق – في إطار سياستها غير العادلة لخلق طبقة رأسمالية لقيادة الاقتصاد - سياسة ضريبية غير عادلة تعتمد أسلوب الجباية الذي عبرت عنه الضريبة العقارية الجديدة التي أدخلتها كأسلوب لتحقيق زيادة في إيرادات الدولة وتمويل أعمالها بصرف النظر عن الخلل في توزيع الثروة. فبينما عاني أكثر من 40% من المصريين من الفقر - أقل من دولارين في اليوم - فقد أظهرت هذه الحكومة على مدى سنوات ولايتها نقصا في الإحساس باحتياجات الطبقات المتوسطة والفقيرة، وانحيازا هائلا - وصل إلى الفساد - للطبقة الاجتماعية العليا التي أغدقت عليها العطايا من أملاك الدولة وطبقت سياسة ضريبية تتجاهل محاسبتهم ضريبيا على الأرباح الرأسمالية الهائلة التي حققوها بغير حق، وتمنع وصول نتائج النمو الاقتصادي إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة، وتؤدي إلى التضخم - الذي ينعكس على معدل نمو الناتج الوطني ويضخمه - وتكرس تركيز الثروة في الطبقة العليا وتزيد الهوة بين الغنى والفقر لتحتل مصر المركز 110 من 160 طبقا لمؤشر معامل توزيع الثروة GINI Coefficient، وهو ما أدى إلى تزايد انفجاري في العشوائيات بكل ما يعنيه للأمن والسلم الاجتماعي وللصحة العامة، ووفر كل ذلك الأرضية لانطلاق احتجاجات الشباب في 25 يناير، ولنجاح الثورة في إسقاط رأس النظام.
دكتور مدحت بكري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق