لم تكن المناظرة التليفزيونية الأولى بين مرشحي الرئاسة عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح هي المرة الأولى التي تذكرت فيها هذه المقولة الدقيقة الصادقة، ولكنني تذكرتها في كل مرة شاهدت فيها أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين يخاطب المشاهد المصري المطحون والمغلوب على أمره الذي أنسته الهموم اسمه بعد أن أنسته تاريخه، فلا يصدقه القول ولا يلتزم مع مناظريه آداب الحديث في الإسلام فلا ينفك يقاطع غيره ويتصايح.
وبالرغم من أن الجماعة العابرة للحدود - غبر الوطنية - التي ينتمي لها السيد أبو الفتوح قد اعتمدت - على مدى أكثر من ثمانين عاما - تزييف الحقائق التاريخية وغسيل الدماغ وأنها تزين لأعضائها الكذب بالرغم من تحالفها الصريح مع النظام منذ السبعينات - ثم غدرها به واغتيال الرئيس السادات - بينما تدعي الطهارة والفضيلة وتستخدم الآن كلمات مثل "الفزاعة" "والاضطهاد" للتضليل ولاكتساب تعاطف جمهور من صغار السن غير المعاصرين للحقائق التاريخية أغضبهم فساد واستبداد الحكم، ولا تتورع عن كيل الاتهامات جزافا لكل من تولى مسئولية وخدم الوطن.
وقد أدهشني أن يقتصر وصف السيد عمرو موسى لعلاقات السيد أبو الفتوح مع القوى المختلفة بأنها مبنية عن ازدواجية الكلام ومواءمة المواقف، وأن يتجاوز عن ادعاء السيد أبو الفتوح بخبرات وقدرات لا يملكها - ولا يوجد أي دليل عليها - وأن يلتزم كياسته المعتادة ودبلوماسيته طوال المناظرة إزاء مناظر لم يتورع عن إهانة مجتمع بأكمله لينال من غريم كل ذنبه أن أخلص وتميز في خدمة وطنه، بينما كانت جماعة السيد أبو الفتوح شريكا كاملا للنظام. فهل كان السيد أبو الفتوح ينتظر من كل مصري وطني إذا ما تولى حكم مصر فاسد - أو حتى مارق - أن يترك البلد ويبحث له عن بلد أخر؟!
وبالرغم من أن تركيز هجوم السيد أبو الفتوح على دور السيد عمرو موسى في الحكومة قبل عام 2000 كان مفهوما ومبررا في إطار المناظرة، فقد اقتصر مديرا المناظرة في مقاربتهم لها على ما شاب النظام الساقط من فساد وغضا النظر - وكذلك السيد عمرو موسى - عما شاب مصادر تمويل الجماعة والتنظيمات المنبثقة عنها من غموض وفساد، واستخدامها للمال السياسي وللدين للتأثير على نتائج الانتخابات، وما اتسمت به من انحراف وعنف لعشرات السنين ودور السيد أبو الفتوح الذي امتد من إرهاب زملائه في الجامعة جسديا إلى علاقته بالتنظيم الذي اغتال الرئيس السادات. وقد كان التوازن وموضوعية العرض تقتضي تناول المناظرة لاعتبارات حيوية هي:
· أن الجماعة - كتنظيم أصولي عابر للحدود، ذو طبيعة عسكرية يقسم أعضاؤه على السرية والولاء والطاعة لغير الوطن لا يدخل مصلحة مصر الوطنية كأولوية في حساباته وإنما تحركه شهوة السلطة وأجندات مخفية - هي من قاد الإسلام في مصر من الوسطية إلى الوهابية، وأطلقت الإرهاب الديني في مصر منذ أربعينات القرن الماضي، واستخدمت الدين بلا حدود في السعي إلى السيطرة على الناس لخدمة أجندات سياسية غريبة على مصر، وهي التنظيم الأم الذي انبثقت عنه كل التنظيمات السلفية بما فيها تنظيم القاعدة.
· أن الجماعة - كما يشهد تاريخها على مدى 83 عاما - لم تغير أهدافها ولكن ما تبدل هو استراتيجيتها كجزء من عملية تسويقية تستهدف قطاعات متباينة من المجتمع، فبينما أدخلت الجماعة مؤخرا ألفاظ "الديموقراطية والوطنية" على أدبياتها "الأصولية" للتمويه، تزيد التنظيمات السلفبة المنبثقة عنها من تشددها، وهي - ولها كيانات منظمة في نحو 80 دولة - ما زال يراودها حلم "دولة الإسلام العالمية" وتسعى لتحقيقه، وتستخدم الآن ديموقراطية الثورة - كما أعلن قادتها - "لامتلاك الأرض وفرض الرأي".
· أن عشرات الآلاف من كبار مسئولي وموظفي الدولة الوطنيين الذين لا يعرفون لهم انتماء آخر - من أمثال السيد عمرو موسى - كان عليهم أن يخدموا مصر بإخلاص واقتدار لا يستطيعه أصحاب الأيديولوجيات المتطرفة والأجندات المخبأة والأفكار التكفيرية والتنظيمات العابرة للحدود الناكرة لحقوق المواطنة ولوحدة النسيج الوطني المصري.
· أن فقر المصريين وعوزهم هو سر استسلامهم وانقيادهم، فالمحتاج يذكر الله ويدعوه بالفرج، ويرحب بالمحسن ويدعو الله له بحسن الجزاء، ويقبل شاكرا - دون ثمة سؤال - ثمنا لصوته الانتخابي صندوق التموين ليأكل العيال والدواء ليخف المرض. من هنا، فليس من المعقول أن تقود جماعات السيد أبو الفتوح النهضة والرخاء لأن من المنتظر أن يسأل المسلم المستغني المحسن بالأموال الأجنبية؛ "من أين لك بكل هذا الذي تشتري يه ولاءنا وأصواتنا؟!"، ولذلك، فإننا لا نعول على نية السيد أبو الفتوح في قيادة مشروع للنهضة الوطنية لأنه يتعارض مع مشروعه لدولة الإسلام العالمية.
لا شك أن في مصر قامات شاهقة خدمت وطنها - في ظل الفساد ورغما عنه - بينما كانت "الجماعة" وتنظيماتها العسكرية السرية تتآمر - على مدى تاريخها - لاغتيال مصريين عظماء وقتل زوار آمنين لمصر، فسالت دماء بريئة ما زالت على أيديهم تنتظر اعترافهم بالذنب واعلانهم التوبة والعودة لصفوف المواطنين الوطنيين ليعمل جميع المصريين - بكل فصائلهم- معا في هذا المفترق الحرج للغاية لإنقاذ "مصر التاريخية" من خطر داهم لم يسبق لمصر أن تعرضت لمثله أبدا؛ فهل تعود الآن للصفوف أم أن انتظارنا سيطول لثمانية عقود أخرى؟!
دكتور مدحت بكري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق