واجه "مشروع ممر التنمية" الذي يتبناه الأخ الدكتور فاروق الباز معارضة من الوزراء المسئولين عن التعمير وانتقادات موضوعية من علميين ومتخصصين وعلماء أبرزهم عالم الجيولوجيا المصري الشهير الدكتور رشدي سعيد، والرئيس السابق للمعهد الوطني لدراسات الصحراء الدكتور سامر المفتى، وأستاذ الهيدرولوجيا والرئيس السابق لجامعة المنوفية الدكتور مغاوري دياب، الذين رأوا أن المشروع لا يستند إلى دراسات مقنعة وأن خريطة الموارد الطبيعية بما فيها المياه الجوفية لا تبرر الاستثمار الهائل في المشروع - 24 بليون دولار أمريكي - والذي ينتظر تجاوزه كالعادة. وقد طرح المهندس الاستشاري العالمي الدكتور ممدوح حمزة عددا من التساؤلات عن البيانات التي تستند إليها دراسة الجدوى والتي توحي باتفاقه مع الرافضين للمشروع، بأدب ولياقة.
إلا أن الاعتبار الأهم والأخطر هو تناولنا لهذا المشروع العملاق خارج إطار الأهداف الاقتصادية لخطة تكاملية قابلة للتنفيذ لنهضة مصر طبقا لبرنامج زمني محدد، تأخذ في الاعتبار الأولويات الوطنية والأبعاد الإقليمية الأفريقية والعربية، وترتكز على دراسة مقارنة لتكلفة وعائد وصافي القيمة الحالية للفرص المتاحة للمشروعات الوطنية الكبرى ماليا وبيئيا، وتلتزم بصرامة بمقتضيات الأمن الوطني، وتحقق استثمار وتنمية المزايا النسبية والتنافسية للاقتصاد المصري في السوق العالمي، وتقارب التنمية على أربع محاور أساسية هي البشر والمياه والقيمة المضافة والتكامل الإقليمي الإفريقي والعربي. فإذا كان من الضروري لاتخاذ قرار بتنفيذ مشروع صغير إجراء دراسة مقارنة لتكلفة وعائد وصافي القيمة الحالية للفرص الأخرى المتاحة للاستثمار، فلا يجوز أصلا العرض لاتخاذ القرار في مشروع وطني عملاق بمعزل عن المشروعات الوطنية الكبرى الأخرى، خصوصا التي تتطلبها مقتضيات الأمن الوطني، مثل:
· تعمير سيناء التي أوقف - بقدرة قادر - مشروع تعميرها بعد أن بدأ وتم الجزء الأكبر من بنيته التحتية، وبالرغم من تحقيقه لزيادة الحصيلة المائية الوطنية باستكمال الري بمياه الأمطار المتساقطة سنويا فيها، ولتثبيت الأوضاع السكانية، ولانعكاساته الأمنية الكبرى على الحدود الشرقية المهددة.
· العودة إلى أفريقيا بعد أن تراجع الاهتمام بالمصالح المشتركة مع الدول الإفريقية، بما في ذلك المصالح الحيوية مع دول حوض النيل، بحيث لا يجد الأخوة الأفارقة في دول المنابع - الذين فطنوا أخيرا إلى قيمة المياه لمشروعهم التنموي - أثرا لمصالح مشتركة مع مصر أو حتى دورا لها في حياتهم إلا بعض شعارات عن الاستعمار غير مجدية وغير مستدامة للرئيس عبد الناصر في زمن مضى وولى قد لا تدركه ذاكرة هذا الجيل أصلا.
فإذا كانت ثورة 1952 قد ساندت - كحركة ثورية - الحركات التحررية لكل الشعوب حول العالم منذ البداية، ووجهت انتباها خاصا لمساندة الشعب الفلسطيني والحركات التحررية لكل الشعوب الإفريقية والعربية التي رزحت تحت الاستعمار القديم وأسفرت في حينه عن قفزة هائلة في شعبية الرئيس عبد الناصر محليا وإقليميا وحوله إلى شخصية عالمية أسطورية، فإن النظام الجديد لم يكن مؤهلا لتطوير الأهداف والاستراتيجيات الناضجة المتسقة مع المصالح المصرية على المديين القصير والطويل، فلم يستثمر في علاقات وشراكات مستدامة تحقق المصالح المشتركة وتزيد قوة الارتباط على مستوى القارة أو حتى في نطاق حوض النيل الحيوي، بما في ذلك إثيوبيا التي تنبع منها تسع أعشار مياه النيل التي تصل دولة المصب. وبينما مارست مصر لسنوات طويلة ترفا مائيا علنيا استنادا إلى اتفاقيات وقعها الاستعمار القديم، يموت أبناءهم جوعا وعطشا دون أن توفر مصر - لعشرات السنين - دعما فنيا تستطيعه أو مشاركة أو تكاملا مع دول الإقليم لتفيد ونسنفيد، ولتجد إسرائيل منفذا صنع في مصر لإيذاء مصر في أعز ما تملك؛ المياه.
وإذا كانت القفزة الهائلة في شعبية الرئيس عبد الناصر عربيا بعد عام 1956 قد أدت إلى تحول في اهتمامات وتوجهات النظام في مصر لخدمة أهداف المشروع العروبي وتراجع الاهتمام بالمصالح المشتركة مع الدول الإفريقية، بما في ذلك المصالح الحيوية مع دول المنابع في حوض النيل. وفي نفس الوقت الذي كرس فيه الرئيس الوقت والجهد والمال لدفع مفهوم القومية العربية تأسيسا على وحدة اللغة والدين، لم تحظ الدول الإفريقية أو دول جوض النيل أو حتى إثيوبيا التي تنبع منها تسع أعشار مياه النيل التي تصل دولة المصب، والتي انتمت أغلبتها المسيحية للكنيسة القبطية ومسلموها للأزهر كان من الممكن أن تؤسس - مع وحدة الجغرافيا والمصالح - لعلاقات خاصة للغاية مع مصر، عوضا عن تباعدها الحثيث وعملها الدؤوب مع إسرائيل ضد مصالح مصر المائية وعلاقاتها القارية.
وقد أسفر تحول اهتمامات وتوجهات النظام في مصر إلى الدول العربية حصريا واستمرار إهماله للمصالح المشتركة مع الدول الإفريقية، بما في ذلك المصالح الحيوية مع دول المنابع في حوض النيل، عن تراجع العلاقات مع الدول الإفريقية ودول جوض النيل وتباعدها حتى تم تغريب مصر عن إفريقيا. واليوم، لا يجد الأخوة الأفارقة في دول المنابع أثرا لمصالح مشتركة مع مصر أو حتى دورا لها في حياتهم، فلم توفر مصر - لعشرات السنين - دعما فنيا تستطيعه أو مشاركة أو تكاملا مع دول الإقليم لتفيد وتستفيد، حتى بعد أن أتضح أن مشكلة التضخم السكاني ستصيب مصر بالفقر المائي للمرة الأولى في التاريخ. ولأن المشكلة المائية ليست ككل المشاكل لبلد صحراوي هو الأكثر قسوة وقحولة وهشاشة في العالم، فقد حان وقت العودة إلى إفريقيا بكل التواضع والاندفاع لتحقيق المصالح المشتركة، ولكن ليس بشركة "نصر" جديدة، وإنما بمشروعات عملاقة للطرق والنقل والاتصالات والمياه والكهرباء والزراعة والصناعة تحقق التكامل القاري وتؤدي إلى انطلاقها وزيادة تجارتها البينية وتنميتها ورفع جودة الحياة لكل أبنائها.
وإذا كان في تخصيص رئيس مجلس الوزراء لوقته ولوقت أجهزة الدولة لدراسة مختلف على جدواها في خارج الإطار المقارن الواجب اتباعه، تفريطا وخروجا عن الأصول المتبعة في تقويم واختيار المشروعات الوطنية الكبرى ومجاملة مكروهة لزميل، فقد جاء تصريح الدكتور عصام شرف - خبير الطرق والنقل - عن نتيجة الاجتماع مع الدكتور الياز لبحث مشروع "ممر التنمية" بتحويله المشروع المختلف على دراساته وجدواه إلى "الطريق الإفريقي الأول" بين الإسكندرية ومدينة الكاب Cape Town بجنوب إفريقيا، لبؤشر بقدرات جديدة ورؤية هادئة وعاقلة على رأس الحكومة، فما أعلنه هو مشروع آخر جديد لا يختلف عليه أحد، ولا يعتمد على وفرة الموارد الطبيعية بما فيها المياه الجوفية ولكنه - وإن كان أضخم كثيرا - يعيد مصر إلى إفريقيا من أقصر الطرق، وهو جدير بأن يتبناه الاتحاد الإفريقي لتحقيقه للتكامل الإفريقي والمصالح المشتركة والتنمية معا، وهو أيضا مشروع قابل للتمويل الدولي الميسر. أما من وجهة النظر المصرية الوطنية، فإن هذا المشروع الذي يحقق الربط القاري ويسهل التجارة بين دول القارة - وأقترح تسميته “Nasser-Mandela Transcontinental Freeway” - يحقق أيضا اتصالا معنويا مع القارة كان قد فقد، ويعيد إلى الذاكرة الأفريقية دورا محوريا لعبه الزعيم المصري الأفريقي الراحل جمال عبد الناصر في تحرير القارة ويبرز وحدة الدور الكفاحي الذي لعبه الزعيمان مانديلا وناصر ويؤكد – بعكس الدعاية الاستعمارية المضادة - وحدة القارة وانتماء مصر الأفريقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق