الثلاثاء، 24 يونيو 2014

ضرورة مشروع وطني للتغيير الشامل لإطلاق مصر

دكتور مدحت بكري | مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا | القاهرة في 14 يونيو 2014 | http://medhatbakri.blogspot.com/2014/06/blog-post.html
سعد المصريون جميعا، وعبروا عن سعادتهم، بما كشف عنه الرئيس السيسي من إدراك للواقع الوطني المعقد والظرف التاريخي الذي تمر به مصر والذي يهدد بقاء مصر التاريخية من أساسه، وعن استراتيجيته لإدارة التحدي متعدد الأوجه الذي يواجه الوطن، والتي تعتمد خطة لإعادة التقسيم الإداري للدولة وإعادة توزيع السكان لاستغلال الموارد الطبيعية على الأرض وفي البحر، ومقاربة هموم ومشاكل الوطن بالتزامن على محاور متوازية، وتحقيق نتائج ملموسة للمواطنين في مدى زمني واقعي، وفي نفس الوقت استكمال الجهد الأمني لاجتثاث الإرهاب وتحقيق الأمان للوطن. ثم جاء خطاب قصر القبة ليعكس حزما وحسما ورؤية شاملة.
ولأن الحمل الذي قبله الرئيس في ظروف مستحيلة - في ظل وهن البناء السياسي للدولة المكون من نحو 90 حزبا سياسيا منعدمة الكيان والتأثير في مواجهة التنظيم الدولي الإرهابي المنظم وحلفائه المنظمين بالداخل المصري ودول أجنبية متآمرة وداعمة، وتقادم الهياكل والنظم والقوانين، وضآلة نصيب التعليم والبحث العلمي والصحة والحكم المحلي في موازنة الدولة ومن ثم انهيار أدائها ونوعية خدماتها وانعكاساتها على سلوكيات المواطنين وأداء باقي مؤسساتها - هو حمل مستحيل تنوء به الجبال، ولا يمكن أن يحمله فرد بمفرده دون تأييد وعمل من شعبه مهما بلغت شجاعته وعبقريته في هذه الأنواء الدولية المصحوبة بهجمة إرهابية وحرب فعلية تشنها الآن قوى خارجية وعملائها المدسوسين بالداخل ليس على مصر فقط ولكن على الإقليم بأكمله في تكرار تاريخي لتقسيم المنطقة في 1916.
ولأننا في موقف استثنائي هو بمثابة عبور مصري آخر وهو ما يتطلب عملا مؤثرا لا ينقطع وقدرات استثنائية مجربة لإعادة تنظيم الدولة وإدارة التغيير الضروري لإعادة الدولة إلى الاتزان والنمو وإخراج المواطن من حالة مزمنة من البؤس والحرمان، فقد حان الوقت للعودة - بصرف النظر عن الممارسات والنتائج - إلى شعار "الاتحاد والنظام والعمل" العبقري لثورة 1952، الذي لم نكن أبدا في حاجة أكثر لمعانيه حتى في يوليو 1952، لندرك معنى دعوة الرئيس للمصريين للعمل معه لإطلاق مصر. ونعرف جميعا أن الرئيس بحكم دراساته كخريج لمؤسسة عسكرية "مصنفة"، وخبراته كمدير للمخابرات الحربية ووزير للدفاع يعرف عما أعرضه الآن ما أعرفه وأكثر منه، فإنني أرجو أن أعرض لبعض خواطر عما أعتقد أنه أمراض إدارة مزمنة ألحقت بمصر أضرارا هائلة على مدى أكثر من ستين عاما، حتى تولي الرئيس السيسي للمسئولية، يتطلب علاجها تنفيذ مشروع وطني عاجل للتغيير الشامل يتضمن إعادة الهيكلة المالية بإصلاح سياسة الضرائب والضمان الاجتماعي والدعم، وإعادة النظر في هيكلة الدولة والنظم ودورات العمل والقوانين المعمول بها، وتعديل دستوري فوري لتحقيق التوازن بين السلطات واستعادة الرئيس لسلطاته لتقابل مسئولياته، والقضاء على الطابور الخامس وتوجيه طاقات المجتمع للعمل والبناء بدلا من الهدم، وتعظيم عائد الأحداث المهمة، والتوجه للمشروعات الوطنية الكبرى والعودة إلى أفريقيا.

1.     الموقف الوطني... لماذا ضاعت السنين هباء؟

كان من الغريب أن ظلت مصر تدور لعقود متعاقبة ممتدة - قبل وبعد 1952 - في دائرة مفرغة بحيث أصبح من الصعب على من عاش هذه الحقبة أن يفرق بين وزارات ووزراء العقود المتتابعة. فكل وزير يزيل كل أثر للوزير الذي سبقه ويدير نفس الوزارة كجزيرة منعزلة بعيدا عن نهج الإدارة الاستراتيجية الحديثة، بنفس القوانين والتعليمات والأنظمة "كالمعتاد" ليحقق نفس النتائج كسابقه بغير احتمال لتغيير. ثم كان من المؤسف أن كل الحكومات المتعاقبة منذ فبراير 2011 لم تدرك أن الحالة لم تعد "عمل كالمعتاد Business as usual" وأن من الطبيعي ألا تناسب القوانين والهياكل وطرق العمل المتقادمة المعمول بها - التي بدأ إدخالها على نظم إدارة الدولة على في ولاية محمد علي باشا وبعدها - الانطلاقة المرجوة، فلا يمكن ولا ينبغي أن يستمر استخدامها في عصر المعلوماتية والاتصالات والإدارة الحديثة بعد انتهاء هذه الفترة الانتقالية. كما أن اختلال المفاهيم والتعريفات لأساسيات تنظيم الدولة والإدارة الاستراتيجية في أدبيات العمل الوطني والديموقراطية، في إطار الأمية واضمحلال المستوى التعليمي والثقافي للمجتمع، قد أدى وما زال إلى ضبابية في مفهوم الفصل الكامل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وتغولها على بعضها البعض، وإهدار العدالة وحقوق المواطنة، وأن ما حدث من تغيرات هائلة في البيئة الاقتصادية والإدارية والمعرفية والتكنولوجية الدولية يتطلب تغييرات مقابلة ومتناسبة في البنية الإدارية والاقتصادية للدولة تؤسس على نفس الاعتبارات لإنجاح انطلاقة مصر.
وكان من المؤسف أن الحكومات المتعاقبة قبل وبعد 25 يناير و30 يونيو قد اتبعت لعقود سياسة ضريبية غير عادلة تعتمد أسلوب الجباية لتحقيق زيادة في إيرادات الدولة وتمويل أعمالها بصرف النظر عن الخلل في توزيع الثروة. فبينما عاني أكثر من 40% من المصريين من الفقر - أقل من دولارين في اليوم - فقد أظهرت هذه الحكومات على مدى عقود نقصا في الإحساس باحتياجات الطبقات المتوسطة والفقيرة، وانحيازا هائلا - وصل إلى الفساد - للطبقة الاجتماعية العليا التي أغدقت عليها العطايا من أملاك الدولة وطبقت سياسة ضريبية تتجاهل محاسبتهم ضريبيا على الأرباح الرأسمالية الهائلة التي حققوها بغير حق، وتمنع وصول نتائج النمو الاقتصادي إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة، وتؤدي إلى التضخم - الذي ينعكس على معدل نمو الناتج الوطني ويضخمه - وتكرس تركيز الثروة في الطبقة العليا وتزيد الهوة بين الغنى والفقر. وفي المقابل، طبقت سياسة مضرة لدعم الطاقة والغذاء لتهدئة واحتواء الطبقة الفقيرة والمتوسطة، تجاوزت تكلفتها 163 مليار أو 70% من إجمالي الدعم والمنح والمزايا بنهاية السنة المالية 2013/2014، والذي تجاوز 233 مليار جنيها في ميزانية 2013/2014، استفاد منها الأغنياء قبل الفقراء وسببت اختلالات هيكلية ودينا يفوق طاقة الاقتصاد الوطني وينذر بتدمير الاقتصاد، تجاوز بنهاية السنة المالية 2013/2014 مبلغا وقدره 1614 مليار جنيه وبلغت تكاليف خدمته لنفس العام 182 مليار جنيه.
وكأنما لتزيد الطين بلة، تبنت هذه الحكومات في إدارتها للدولة سياسة غير مسئولة لتمويل الاحتياجات بالعجز - بلغ العجز النقدي في ميزانية 2013/2014 مبلغا وقدره 173 مليار جنيه - ولم تترك سبيلا للاستدانة إلا سلكته، حتى إصدار أذون خزانة تضمنها الدولة بأسعار باهظة للفائدة، بلغت بنهاية السنة المالية 2013/2014 مبلغا وقدره 262 مليار جنيه اكتتبت فيها البنوك فاختلت السياسات المصرفية وحجبت البنوك أموالها عن النشاط الاقتصادي مفضلة العائد الكبير السهل المضمون لأذون الخزانة، فتراكمت على مدى عقود ديون الدولة الحالية، وهي ديون طويلة الأجل تتحملها في المقام الأول الأجيال القادمة التي تنتقل إليها دون ذنب أعباء الجيل الحالي. ونتيجة لذلك، حددت البنوك أسعار فائدة مرتفعة لإقراض النشاط الاستثماري تفوق ضعف سعر الفائدة على الودائع (high spread)، فضاعف هذا الخلل أرباح البنوك. وبينما أدى ذلك إلى انكماش النشاط الاستثماري، فقد بدا أن البنوك - بيت الداء الرئيسي - تديرها إدارات "محترفة" تحقق الأهداف وتستحق المكافأة، فتضاعفت بالطبع مرتبات ومكافآت هذه الإدارات "المحترفة" خارج نطاق المنطق السليم والاستحقاق والعدالة الاجتماعية، واستشرى الفساد المصرفي. وفي غمار كل ذلك تناست هذه الحكومات أن الدول أيضا تفلس، وأن المواطن البسيط مهدد بضياع مدخراته بالبنوك والدولة مهددة بفقد استقلالها والوقوع في قبضة نادي للدائنين.
ولأن الفترة الانتقالية التي قاربت أربع سنوات منذ 11 فبراير 2011 وأتمت سنة منذ 3 يوليو 2013 مثلت وقتا ميتا، فقد كان من الأفضل والمهم، بل الضروري، استخدامها للانتهاء من مشروع "تغيير" شامل للاستعداد لإعادة إطلاق مصر. ولذلك، فقد كان أهم دور للحكومات الانتقالية المتعاقبة، مع تحقيق الأمن ووقف انزلاق الاقتصاد وتثبيته، هو إعداد الدولة للانطلاق بإحداث التغيير المطلوب لإطلاق قدرات مصر الكامنة من خلال "مشروع وطني شامل للتغيير"، يتجاوز الجزر المنعزلة التي تعاملنا معها في الماضي، ويديره في المرحلة الانتقالية رئيس مجلس الوزراء شخصيا باعتباره جزءا رئيسيا من رؤية الدولة. إلا أن ذلك لم يحدث، ولذلك فقد ضاع على الدولة وقت ثمين علينا الآن أن نضيعه مرة أخرى في مهام الاستعداد الضرورية بدلا من الانطلاق. والآن، تنتقل المسئولية عن التغيير الحتمي إلى الرئيس دون سابق إعداد.
ونعلم أن القوى العظمى لا تغير أهدافها طويلة الأجل التي تستغرق عشرات السنين لتحقيقها، حتى بعد هزيمة كبرى كتلك التي ألحقتها بها ثورة 30 يونيو، ولكنها تغير استراتيجياتها وتستبدل خططها وآلياتها لتحقيق ذات الهدف. ولذلك فمن المنتظر أن تستمر محاولة القوة الأعظم وأن تسعى إلى بدائل لإعادة إنتاج السيناريو السوري في مصر، وهو ما يبدو في تصاعد الإرهاب في مصر، وفي كل المنطقة، واستمرار التأييد الأمريكي الذي يصل لدرجة حماية الإرهابيين، مقابل تردد الدولة المصرية وتقاعسها عن فرض إرادتها تحقيقا للمصلحة الوطنية حتى الآن، وهي الأمور التي يمكن أن تؤدي إلى إطالة وجود الجماعة الإرهابية العميلة وإكسابها وزنا والتصاقا على الأرض، وفي نهاية الأمر إلى تكرار السيناريو السوري في مصر إذا لم تتم مواجهتها وتوجيه ضربة شاملة وخاطفة وفعالة لكل عملاء القوة الأعظم بالداخل. ومن المفروغ منه أن تقديم السفير الأمريكي الجديد أوراق اعتماده للرئيس السيسي لا يمكن أن يؤخذ كدليل على قبول البيت الأبيض للأمر الواقع، ولكن على أنه تكريس لمركز الإدارة الأمريكية في القاهرة لدعم وتسهيل حركتها في اتجاه نفس الهدف الذي تعمل على تحقيقه الأجهزة "الضخمة" للسفارة الأمريكية وتوابعها بالقاهرة غير المتناسبة مع تمثيلنا بالولايات المتحدة.
ويعتبر "مشروع الشرق الأوسط الكبير" المحوري الذي مهد له زبيجنيو بريجينسكي Zbigniew Brzezinski مستشار  الأمن الوطني الأمريكي في إدارة كارتر Jimmy Carter خلال الفترة 1977 - 1981، والذي أعدته - أو شاركت في إعداده - الحركة الصهيونية العالمية وقدمه الزعيم الصهيوني المعاصر برنارد لويس Bernard Lewis للكونجرس الأمريكي في ثمانينات القرن الماضي، وطوره Richard Perle ومجموعة المستشارين الصهاينة الأمريكيين في تسعينات القرن الماضي، وأنذرت حرب تحرير الكويت ببدئه، ثم تبنته وبدأت تنفيذه إدارة بوش الصغير GW Bush باحتلال العراق، واستكملت تنفيذه إدارة أوباما Barak Obama، والذي يهدف إلى تفجير وتفتيت وتقسيم دول المنطقة وإعادة ترتيبها تطويرا طبيعيا - وفي أغلب الظن نهائيا - لضبط تقدم المشروع الصهيوني "طويل الأجل" لإنشاء الدولة الصهيونية كحاملة طائرات أمريكية ضخمة Self-sustaining Mega Aircraft Carrier على الأرض في قلب المنطقة، ويمثل إطارا دوليا جديدا - بديلا لاتفاق سايكس بيكو   Sykes-Picotلإدارة المنطقة في الألفية الجديدة - يعكس بشكل أكتر واقعية الأوضاع العالمية الجديدة وخصوصا الدور الأمريكي في العالم والمنطقة ونفوذ اليمين الأمريكي الصهيوني المسيحي-اليهودي وتقاطعات المصالح الأمريكية والإسرائيلية والحقائق وموازين القوى على الأرض، ويستهدف الوصول إلى حل نهائي للصراع العربي الإسرائيلي يكرس ما تحقق من الأهداف الصهيونية ويحقق "نهائية إسرائيل" بتفريغ محيط الدولة الصهيونية من الدول القادرة على تقويض أمن "الدولة اليهودية" أو المنافسة على كل موارد المنطقة في المستقبل القريب أو البعيد.
وبعد أن تراجع الاهتمام بالمصالح المشتركة مع الدول الإفريقية، بما في ذلك المصالح الحيوية مع دول حوض النيل، أو حتى إثيوبيا التي تنبع منها تسع أعشار مياه النيل التي تصل دولة المصب، أصبحت مصر في موقف هو الأخطر والأشد حرجا في تاريخها. فاليوم، تنازع دول حوض النيل متعددة الموارد المائية السودان ومصر الصحراوية غير المطيرة على مياه النيل التي تشكل المصدر المستدام الوحيد للحياة فيها، خصوصا بعد أن أصابت مشكلة التضخم السكاني مصر بالفقر المائي للمرة الأولى في التاريخ - بينما رأتها الحكومات المتعاقبة مجرد مشكلة اقتصادية واجتماعية - وانخفض نصيب الفرد انخفاضا كارثيا من ~4000 م3/سنة في 1950 إلى ~700 م3/سنة في 2010، فحل بها الفقر المائي (< 1000م3/سنة) ويستمر التراجع مع الانفجار السكاني بحيث يتهددها الآن الجفاف والعطش والمجاعات، أو حروب مياه مدمرة.
وكان من نتائج قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدرته انفعاليا ثورة 1952 لإعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية في غياب الخبرة ودون دراسة كافية تشمل النتائج بعيدة المدى بعد عشرة أجبال أن لجأت الثورة إلى حل منتج لبريق لحظي ولكن غير مستدام  أدى في نهاية الأمر إلى تفتيت الرقعة الزراعية وتحويل كل المصريين إلى معدمين، ثم في نهاية الأمر إلى تجريف الأرض واستنزاف الاعتداء العمراني المستمر جيلا بعد جيل للرقعة الزراعية المفتتة وإهمالها وتدهورها، بينما كان من الأجدر بعد الاستيلاء على أراضي الاقطاع استبقاء هذه الأراضي مجمعة في شكل جمعيات تعاونية زراعية توزع "أسهمها" على المستفيدين وتسند إدارتها لخبراء لتنميتها ومنع تجريفها والمحافظة على النهر كمورد مقدس للمياه. ولذلك، فقد أدت إجراءات قصد بها تحقيق عدالة اجتماعية مستحقة ومتأخرة، إلى كارثة وطنية بسبب غياب الخبرة والتسرع.
وكأنما لنزيد مشاكلنا تعقيدا، أسأنا الاختيار عندما انفجرنا سكانيا في ظل نظام غافل، فاستمر التكدس السكاني والتزاحم في الأرض القديمة - أرض الأجداد والأحفاد - فتآكلت الأرض الطيبة أمام التوسع العمراني العشوائي، بحيث أصبحت دلتا النيل للناظر من السماء كرئة أصابها درن. وضاق بنا الوادي فاتجهنا إلى قلب الصحراء وتركنا الساحل الشمالي حيث الرطوبة وحيث الأمطار - على قلتها - وبينما تعاني مصر من الفقر المائي الذي سببه الانفجار السكاني، وجهنا مياه النيل "بالرفع" بإحدى أضخم محطات الضخ - التي تستهلك طاقة كهربائية لا نملكها - إلى توشكى الأكثر قسوة وقحولة وهشاشة في العالم، دون بحث للصلاحية أو دراسة للجدوى وللمردود "المالي والبيئي" لأكثر من 10 مليارات جنيه تمت بعثرتهم - "مزاجيا" دون دراسة للفرص البديلة ودون بحث عن مصدر بديل للمياه - في صحراء مشكوك في صلاحيتها مناخا وأرضا للزراعة، بدلا من أن نوجهها إلى الساحل الشمالي الغربي وسيناء "بالانسياب" بالانحدار الطبيعي دون تكلفة تذكر إلى أرض الشريط الساحلي "المزروعة" فعلا على الأمطار، لتخليص المنطقة الشمالية الغربية من حقول الألغام، ولاستكمال الري بمياه الأمطار القليلة المتساقطة على الشمال التي لا تكفي حصيلتها الزراعة المنتظمة فتضيع - مع ما يضيع من مخزون المياه في صحراء توشكى - وتطرح من حصيلتنا المائية عاما بعد عام، ويبقى الساحل الشمالي من السلوم إلى رفح مهجورا أو مهدرا في غابات إسمنتية، وتبقى سيناء مطمعا بغير سكان يدرؤون عنها الغزاة والطامعين. وضاعت الأموال دون دراسة لكن أحدا لم يحاسب، وما زال أصحاب هذا الهدر والضياع يفكرون في إلقاء أموال جيدة خلف أموال رديئة دون دراسة سعيا وراء "حضارة" جديدة بدلا من محاسبتهم وتقديمهم للمحاكمة لإهدارهم موارد الدولة!
وبالرغم من كل ذلك، لم يستثمر النظام الذي لم يكن مؤهلا لتطوير الأهداف والاستراتيجيات الناضجة المتسقة مع المصالح المصرية على المديين القصير والطويل، في علاقات وشراكات مستدامة تحقق المصالح المشتركة وتزيد قوة الارتباط على مستوى القارة أو حتى في نطاق حوض النيل الحيوي، بما في ذلك إثيوبيا التي تنبع منها تسع أعشار مياه النيل التي تصل دولة المصب. وبينما أهدرت مصر مياه الري ومارست لسنوات طويلة "ترفا مائيا" علنيا استنادا إلى اتفاقيات وقعها الاستعمار القديم، يموت أبناءهم جوعا وعطشا في السنوات العجاف ويقضون لياليهم في ظلام، دون أن توفر مصر لعشرات السنين دعما فنيا تستطيعه أو مشاركة أو تكاملا مع دول حوض النيل والقارة لنفيد ونستفيد، ولتجد إسرائيل منفذا صنع في مصر لإيذاء مصر في أعز ما تملك؛ المياه.

2.     مشروع التغيير

من الضروري أن يستند مشروع الإنقاذ والتنمية الوطني إلى مشروع للتغيير الشامل يبني على مفهوم الإدارة الاستراتيجية الحديثة المرتكزة على رؤية vision شاملة للدولة، وأهداف استراتيجية strategic objectives واضحة، وخطط وبرامج plans and programs يتم تحقيقها في مواعيد محددة سلفا target dates طبقا لاستراتيجيات strategies تعرِف كيفية تنفيذ الخطط والبرامج لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المطلوب تحقيقها في الأوقات السابق تحديدها. فإذا لم تكن للدولة رؤية، أو كانت رؤيتها ناقصة، أو كانت الأهداف والخطط والبرامج والاستراتيجيات والبرامج الزمنية غير محددة بوضوح سلفا، أو إذا عانت من سوء إدارة الوقت، كان من الطبيعي ألا يحقق المجتمع ما يطمح إليه وأن يستمر فشل الدولة. ومن الواضح كذلك أن مثل هذا المشروع الوطني للإنقاذ والتنمية لا يمكن أن يتحقق بغير توحد جموع المصريين في تبني أهدافه والمشاركة الفعالة فيه دون استثناء أو تحفظ باعتبار المهمة معركة مصير ووجود تخوضها مصر من موقف ضعيف.
كما أن من المفهوم أن تتضمن الاستراتيجية إعادة هيكلة الدولة كجزء أساسي في مشروع التغيير الشامل يشمل إعادة الهيكلة المالية بإصلاح سياسة الضرائب والضمان الاجتماعي والدعم، وإعادة هيكلة التنظيم وترتيب علاقات مكونات الدولة ونظمها ودورات العمل والقوانين المعمول بها، وإنتاج بناء structure وتطوير عمليات processes لتحقيق وظائف functions وخلق نظام للضوابط والتوازنات checks and balances يتفادى العيوب الهيكلية والتنظيمية ويمنع تداخل السلطات. فإذا لم يكن البناء متوافقا مع الدستور ومناسبا لتحقيق هذه الوظائف، أو لم تكن العمليات محبوكة والمجتمع منضبطا، أو إذا اختلت معايير الاختيار والإسناد، أو تعددت "الأجندات"، أو تداخلت الأولويات، أو تاهت الأهداف، أو اختلت قدرة الإدارة على تقدير الموقف واتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب، أو غاب نظام للضوابط والتوازنات، تكون المفارقة والمعضلة ويفشل المجتمع في تحقيق أهدافه. وبغير ذلك، ستضطر حكومة "ما بعد الانتقال" لإضاعة وقت ثمين لإعداد الهياكل وتصميم دورات العمليات اللازمة لإطلاق دولة "حديثة" عوضا عن تحقيق الانطلاقة.

1.2     إعادة الهيكلة المالية... إصلاح سياسة الضرائب والضمان الاجتماعي والدعم

هناك ضرورة حقيقية، وأولوية سابقة لإصلاح برامج الدعم في أي برنامج للإصلاح المالي الهيكلي، للإعلان عن إصلاحات رئيسية فورية في السياسة الضريبية، ليس فقط لإصلاح الخلل المالي الهيكلي وزيادة الموارد السيادية وتوفير التمويل لبرامج التنمية والمشروعات الكبرى وغيرها، ولكن لتصحيح الفجوة "المصنوعة" بين الغنى والفقر التي أسفرت عنها الحقبة الماضية، ولاسترداد حقوق المجتمع في عطايا الدولة للطبقة العليا، ولضمان وصول نتائج التنمية لكل طبقات الشعب وعدم اقتصارها على الشريحة الأغنى لتحقيق عدالة توزيع الثروة، وهي إجراءات تؤشر بالجدية وبصدق النوايا في الإصلاح وتحقيق العدل الاجتماعي، تؤدي إلى استعادة فورية للثقة - ومن ثم التواصل - بين الدولة والشعب، وتهدئ من المطالب والاحتجاجات الشعبية والفئوية الجارية، وتقنع الشعب بقبول إجراءات تصحيحية تشمل الدعم وتؤثر على الأسعار.
وتتضمن إجراءات الإصلاح الضريبي الضرورية، الانتقال من الضرائب على المبيعات إلى الضرائب على القيمة المضافة الأكثر كفاءة وعدالة، ومطابقة تسديدات الممولين من الضرائب على ثرواتهم بالداخل والخارج لتحصيل ما فات الدولة تحصيله طبقا للقانون، وتطبيق الضرائب على الأرباح الرأسمالية "المختلفة" المطبقة بالفعل بالدول المتقدمة - وخصوصا تلك المتعلقة بالتصرفات في الأراضي التي خصصت لمحاسيب طفيليين فحولتهم بين ليلة وضحاها إلى بليونيرات دون مقابل، وتوسيع القاعدة الضريبية وتصحيح القواعد الضريبية على الأجور والمكافآت وليس تحديد حد أقصى - على الدخل وعلى المرتبات والمكافآت الاستفزازية للإدارة العليا ومستشاري الدولة، ضمن الإجراءات التصحيحية المطلوب تطبيقها بالدول المتقدمة في أعقاب الأزمة المالية العالمية.
سيكون من الحكمة، لدرء مخاطر انتفاضة شعبية تنتج تلقائيا بفعل الفقر والجوع، أو تكون مدفوعة بتحريض الأجهزة الخارجية وعملائها النشطين بالفعل بالداخل لتخريب الدولة وإسقاط النظام، أو الإثنين معا، تركيب شبكة أمان كافية مناسبة لمجابهة احتياجات الفقراء في مواجهة ارتفاع الأسعار الناتج عن إلغاء الدعم والجشع وانعدام المسئولية الاجتماعية، تتمثل في توسيع قاعدة الضمان الاجتماعي لتشمل ما لا يقل عن خمسة ملايين أسرة إضافية قبل الشروع في أي إجراءات تمس الدعم بأنواعه كمؤشر آخر على انحياز الدولة للفقراء، بزيادة مخصص الضمان الاجتماعي من نحو 11 مليار إلى >60 مليار جنيه في موازنة 2014/2015.
سيكون من الضروري، بعد ترشيد الإنفاق العام وتركيب شبكة أمان كافية مناسبة لمجابهة احتياجات الأسر الفقيرة في مواجهة كل موجة من موجات ارتفاع الأسعار الناتج عن الإلغاء المتدرج للدعم في ظل الجشع وانعدام المسئولية الاجتماعية، ترتيب القطاعات المستهدفة من سياسة الدعم، بدءا بقطاع الطاقة الأكبر والأكثر تأثيرا. وسيكون من الضروري البدء بإلغاء دعم الطاقة بأنواعها دفعة واحدة، والانتهاء بإلغاء الدعم على الغذاء لتفادي موجات متعاقبة من ارتفاع الأسعار بسب الجشع وانعدام المسئولية الاجتماعية إذا ما تمت الإجراءات على دفعات تجنبا للثورة الاجتماعية.

2.2    إعادة النظر في هيكلة الدولة والنظم ودورات العمل والقوانين المعمول بها

حتى وإن كان وقف الانهيار الاقتصادي، واستعادة القانون والنظام، وانحسار مظاهر الفوضى، وإعادة الانضباط إلى المساجد والجامعات هي من الأولويات التي يجب أن تعالجها الحكومة الانتقالية، فإن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية شديدة الحرج تتطلب أن تكون مصر مستعدة لبدأ انطلاقتها بمجرد انتهاء الفترة الانتقالية. ولأن الدولة بأوضاعها الحالية غير مؤهلة للانطلاق، ومن الطبيعي ألا تناسب القوانين والهياكل وأنظمة العمل المتقادمة المعمول بها، والتي أدخلت على إدارة الدولة على مدى أكثر من قرن، فلا يمكن ولا ينبغي أن تستخدم اليوم هذه القوانين والهياكل والأنظمة لإحداث الانطلاقة المرجوة بعد انتهاء الفترة الانتقالية. من هنا، يأخذ المشروع الوطني للتغيير أولويته، وبغير ذلك، سنضطر لإضاعة وقت ثمين لإعداد الهياكل وتصميم دورات العمليات اللازمة وميكنتها لإطلاق الدولة عوضا عن تحقيق الانطلاقة، أو في المقابل الاستمرار في المعاناة من قصور الكفاءة الموروث.
من غير الطبيعي والمستغرب أن يصل عدد الوزراء في وزارة انتقالية محدودة المدة لتصريف الأعمال 36 وزيرا يحضرون جميعا مجلس الوزراء، ولكل منهم سلطات مطلقة على وزارته غالبا ما تمثل تعارضا وتناقضا مع سلامة الأداء القطاعي وتحقيق الأهداف القطاعية. لذلك تصبح أهم ضرورات إعادة هيكلة الدولة في المرحلة المقبلة هي إعادة هيكلة مجلس الوزراء على أساس وظيفي، بحيث يتم تقليص حجم المجلس بالتعامل مع الوزارات الحالية كوحدات إدارة وظيفية تعمل بشكل تكاملي لتحقيق أهداف قطاعية، ضمن مجموعة يرأسها ويديرها وزير للقطاع يكون عضوا بمجلس الوزراء مسئولا عن Sub-cabinet تحقق التكامل والتواصل والتنسيق بين وحدات الإدارة (الوزارات الحالية) ويدير كل وحدة وزير دولة يكون حضوره لمجلس الوزراء بحسب الحاجة.
فمثلا، لا يمكن تبرير وجود وظائف الري والزراعة واستصلاح الأراضي والتصنيع الزراعي والتموين في جزر منعزلة بالشكل القائم الآن، لمجرد أن هذا هو الأمر الواقع الذي يجري عليه العمل لعشرات السنين، بينما تقع معظم هذه الوظائف مجتمعة في نطاق وزارة واحدة في الولايات المتحدة الأمريكية هي USDA بالشكل الذي يحقق الإدارة التكاملية لهذه الوظائف، والذي تحققه تكنولوجيا الإدارة بكفاءة تامة بمجرد الانتهاء من تطبيق الحكومة الإلكترونية. وبنفس المنطق، يؤدي فصل الموارد الطبيعية مثل المناجم والمحاجر والبترول عن الطاقة والصناعة والتجارة الدولية إلى بقاء الموارد الطبيعية حبيسة الأرض والبحر دون اكتشاف واستغلال ويستمر تصدير خامات منخفضة القيمة، بدلا من منتجات مصنعة عالية القيمة. كما لا يمكن أن تنعزل وظائف المالية والتخطيط والمتابعة والاستثمار والتجارة والتحليل الاقتصادي عن بعضها، أو أن تكون هناك وزارة منفصلة للاقتصاد الذي يعبر عن نتائج الأداء الكلي لمجموع هذه الوحدات وغيرها، والذي يجب أن يكون متكاملا مع وظيفة التخطيط، إلخ.
وبينما سبق أن تمت محاولات جيدة محدودة، لم تستمر، لدمج الوظائف القطاعية أو على الأقل التنسيق بينها، فقد تم للأسف إجهاضها في كل مرة لأسباب واهية تتعلق باعتبارات سلطوية أنانية. كذلك، تم أيضا ضم وزارات لاعتبارات غير وظيفية. فمثلا، كان ضم حقيبتي التنمية الإدارية والتنمية المحلية ذات بعض الطبيعة والمهام المختلفة في وزارة المهندس إبراهيم محلب، مؤشرا خطيرا، لا يجب أن يتكرر، بالإفراط في تبسيط توجهات الوزارة الانتقالية، بحيث أدمجت أجزاء من الهيكل الوظيفي لتشابه المسميات وليس لمتطلبات المهمة، أو لطبيعة الوظائف أو تكاملها، أو محورية الدور وأهميته لتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
·         إنشاء وزارة لتكنولوجيا الإدارة والاتصالات والمعلومات
بل أن من المهم جدا في هذا الإطار، لأسباب وظيفية ذات أولوية قصوى تتعلق بدورها الجوهري في تنفيذ مشروع التغيير وإطلاق البلد، أن يتم ضم وإعادة هيكلة وزارتي التنمية الإدارية ووزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في وزارة واحدة هي "وزارة تكنولوجيا الإدارة والاتصالات والمعلومات" التي تكون مهمتها:
1.       تخطيط وتحقيق التكامل الوظيفي لمختلف قطاعات الدولة بإعادة هيكلة الدولة على أساس وظيفي، بحيث يتم التعامل مع الوزارات الحالية كوحدات إدارة تعمل ضمن مجموعات لتحقيق أهداف قطاعية.
2.       تحديد المتطلبات الوظيفية المفصلة في تصميم نظام إدارة الدولة والتي تصف السلوك المتوقع للنظام فيما يتعلق بأدائه الوظيفي، وتنظم علاقات مكوناته، وتحدد وظائفه وتصف ما ينبغي أن يحققه.
3.       تطوير النظم ودورات العمل على مستوى الدولة وميكنتها من خلال نظام الحكومة الإلكترونية لتحقيق كفاءتها وتواصلها، بحيث يتم أداء وتوثيق أي وظيفة من المرة الأولى ولمرة واحدة دون تكرار، وإتاحتها "في إطار السلطات المخولة" لمستخدمي النظام على مستوى الدولة بشفافية.
4.       إنشاء قاعدة معلومات متعددة الطبقات بنظام GIS، مصممة لإتاحة الوصول إلى البيانات واستخراجها، تجدد بياناتها باستمرار وتظهر كل طبقة بالتفصيل توزيع الموارد الطبيعية، والطرق والسكك الحديدية والمجاري المائية والمنشآت المقامة عليها بتفاصيلها، والأراضي الزراعية والصحراوية المزروعة ومساحاتها وزراعاتها ومصادر المياه السطحية والجوفية وتصرفاتها وبياناتها، والكتل العمرانية ومرافقها، والأصول الصناعية والزراعية وطاقاتها وإنتاجها الفعلي ونواتجها الثانوية ومخلفاتها وتكلفتها البيئية، ومحطات وشبكات المياه والصرف الصحي وتوليد الطاقة بأنواعها وطاقاتها وأعمارها وتجديداتها وكفاءتها وانبعاثاتها ومخلفاتها، والمنشآت الإدارية والأمنية والخدمية للدولة بما فيها الصحية والتعليمية وأنواع خدماتها وأعداد وأعمار ونوع متلقي هذه الخدمات واستهلاكاتها ومخلفاتها، ونوعية وأعداد وأعمار العمالة المتاحة ومستويات تدريبها وأجورها ومعدلات التشغيل والبطالة في كل منطقة، إلخ. باختصار كل شيء وكل التفاصيل لتكون بمثابة "أطلس إلكتروني متكامل متعدد الأبعاد لمصر."
ولكن، بدلا من ذلك، أدمجت وظائف التنمية الإدارية والتنمية المحلية في وزارة المهندس محلب الأولى لأن كلاهما "تنمية"، ثم ألغيت بالمرة التنمية الإدارية "الأهم" وأدمجت الوظيفة في اختصاصات وزير التخطيط لاعتبارات "ظرفية" وأبعدت عن الوزارات الأقرب وظيفيا في وزارة المهندس محلب الثانية.
علينا أن نأخذ العبرة من أسلوب اختيار "مسئولي" مرحلة 1974 - 2014 دون معايير أو تقييم سليم لدراساتهم وخبراتهم وقدراتهم أو دراسة لسابقة أعمالهم وأدائهم، وأن يتم الاختيار في هذه المرحلة في إطار استيعابنا لأبعاد الأزمة وأولوياتها، ورؤيتنا للمستقبل في ضوء إخفاقات الماضي واتجاهنا "للإدارة بأهداف المرحلة والمهمة" التي تعرف بالخبرات وبسابقة الأعمال التي يجب أن تغلب عليها الجوانب الاستراتيجية والتنفيذية، والتي تتأسس فقط على القدرة المبرهنة على الإنجاز، وعلى التقدير السليم للقدرات، وتنطلق من توصيف دقيق للمهام والأهداف وما يلزم لتحقيقها. وهو مالم يحدث منذ 11 فبراير 2011 أو حتى بعد 3 يوليو 2013.
وقد ثبت لنا خلال العام المنقضي منذ 3 يوليو 2013 أن قرار اختيار رئيس مجلس الوزراء والوزراء يجب أن يبنى على سابق معرفة "بقدراتهم" و"خبراتهم" وأن الاختيار على أساس الخبرات السابقة دون القدرات قد يفضي بحسب "مبدأ بيتر The Peter Principle" إلى تصعيد المرشح في السلم الوظيفي إلى مستوى "عدم كفاءته،" فتكون البلد قد فقدت موظفا أو مديرا أو وزيرا كفؤا ولم تكسب مديرا أو وزيرا أو رئيسا للوزراء متميزا عن سابقه وقادر على الاضطلاع بمهام إطلاق البلد بمجرد انتهاء الفترة الانتقالية أو على الأقل إعداد البلد للانطلاق، وهي مهمة يتطلب تحقيقها خبرات وقدرات محددة.
ولكل ذلك، فقد أصبح من الضروري وضع وإعلان معايير دقيقة وصارمة للاختيار والإسناد والاستمرار والترقي لكل وظائف أجهزة الدولة، كما أصبح من الضروري إنشاء نظام دائم متجدد لتدريب وبناء قدرات الموارد البشرية بالدولة للتأكد من تناسب القدرات مع متطلبات النظم الجديدة والمهام المسندة لكل من العاملين بالدولة. كذلك، أصبح من الواضح أن العودة إلى نظام للاختيار والتوظيف بالامتحان والمقابلة السابق تطبيقه في الأربعينات من القرن الماضي بعد تحديثه وإسناد إدارته لخبراء إدارة مؤهلين، وإعادة تأهيل نظام الرقابة الإدارية لاجتثاث الانحراف والفساد والقصور الوظيفي هو أمر حتمي لا يقبل التأجيل.
بنى الصهاينة إسرائيل على عقيدة عسكرية راسخة بأن "المستعمرات قبل المدرعات" فقد فهموا - ولم نفهم - أن الفراغ يتم ملأه، وأن البشر هم من يملأ الفراغ. وملأوا النقب وحافظنا على "فراغ" سيناء والبحر الأحمر، وكأننا نخطط لهم ليملئوا فراغنا. وبالرغم من الانفجار السكاني حتى جاوز تعدادنا 90 مليونا تركزوا في الوادي الضيق والدلتا حتى استشرت بيننا أمراض التزاحم، ما زلنا نترك جبهتنا الشرقية المكتظة بالثروات مهددة فارغة خاوية تنتظر من يملأها، حتى أننا نسينا ما حدث للرادار المتقدم الذي زرعناه في ستينات القرن الماضي في خواء محافظة البحر الأحمر، فجاءوا وحملوه معهم وفقدنا قدرتنا على الرؤية، وكانت فضيحة عسكرية وطنية!
وقد أدى التقسيم الإداري الطولي للدولة (من الجنوب إلى الشمال) وخلو المنطقة من النهر إلى الساحل الشرقي من شبكة للطرق إلى تكدس الكتلة السكانية في الشريط الضيق على جانبي النهر جنوبا وفي دلتا النيل شمالا، كما أدى شغل محافظة البحر الأحمر الموازية للنهر لطول الساحل الشرقي على امتداد البحر الأحمر، والظهير الصحراوي الغربي للجانب الغربي للنهر إلى عزوف المواطنين عن استغلال هذه المناطق بما فيها الساحل، وإلى الاجتراء على الأرض الزراعية وامتهان النهر الذي كان مقدسا. ولأن الفقر وندرة فرص العمل بالأطراف طارد إلى المركز، كما أن مركزية القرار والسلطة والوفرة النسبية لفرص العمل جاذب للمركز، فقد أدى كل ذلك إلى الهجرة إلى المراكز الحضرية، وبصفة خاصة القاهرة، وظهور العشوائيات، إلى آخره من تزاحم وفقر واختلالات قاتلة في التعليم والصحة والإسكان والنظافة.
من هنا، فقد مثل المشروع "العبقري" الذي قدمه الرئيس لإعادة التقسيم الإداري للدولة على محاور عرضية تمتد عرضا من الصحراء الغربية غربا إلى البحر الأحمر شرقا لتخدم مشروعات تنمية الموارد الطبيعية بالصحراء الشرقية، فرصة لإعادة توزيع السكان والمحافظة على الأرض القديمة واستثمار أراض جديدة لاستغلال مواردها الطبيعية عل امتداد الوادي شرقا حتى الساحل وغربا إلى الطريق الجديد لربط المحافظات. لذلك، سيكون من الضروري إتمام الوزارة الجديدة لتكنولوجيا الإدارة والاتصالات والمعلومات لمشروع الحكومة الإلكترونية المتعثر بلا سبب لسنوات لتحقيق التواصل بين الأطراف والمركز، حتى يمكن للمحليات والأفراد إتمام جميع الخدمات دون حاجة لتواجد المواطن المباشر بالمركز وليحقق إعادة التقسيم الإداري الجديد للدولة هدفه في وقف الهجرة إلى المراكز الحضرية وإعادة توزيع السكان بنجاح.
إلا أن تأثير إعادة ترتيب الخريطة الإدارية للدولة لا يمكن أن يكتمل دون إعادة هيكلة الدولة للتأكيد على قدرة الهياكل على تحقيق الوظائف، وتطبيق معايير اختيار سليمة لضبط الأداء، وإعادة النظر في منظومة القوانين التاريخية المتعارضة المتقادمة والمتهالكة، والتخلص من نتائج التدخل البيروقراطي المنتج للمعوقات التنظيمية والإجرائية ومن ثم للفساد، ووضع الاستراتيجيات القادرة على تحقيق الأهداف، وإعادة تصميم وتطبيق دورات العمليات بإدارات الدولة وميكنتها لتحقيق كفاءتها وتواصلها، وتنظيم وتقنين النفاذ إلى المعلومات والبيانات وتداولها بقوانين جديدة يضعها الخبراء بعيدا عن نفوذ البيروقراطية المغرض والخانق، وتشغيل الحكومة الإلكترونية لتحقيق التواصل والكفاءة، وتحديث والتوسع في شبكات الطرق والسكك الحديدية واستخدام النهر والمجاري المائية لدعم وتقوية منظومة انتقال الأفراد ونقل المواد الخام والبضائع في مناطق التوسع الجديدة الناتجة عن التقسيم الإداري الجديد للدولة، لينتهي الإعداد للانطلاق وليبدأ الانطلاق في أقرب وقت، وهو ما لم - ولن - يتحقق إلا إذا نظر رئيس المجلس وأعضاء الوزارة إلى مهمتهم من خارج الصندوق الذي طال استخدامه لإنتاج نفس النظم والجزر المنعزلة وإدارتها في حلقة مفرغة بنفس الشخصيات - أو مثلهم - من "العواجيز" الذين سبق أن أخفقوا في إحداث أي تقدم في مسيرة الوطن.
·         الفصل الكامل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية
الفصل الكامل للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في مصر هو الضمانة الوحيدة لمنع تغول الحكومة (السلطات الثلاث Three Branches of Government) على المواطن ولشيوع العدل وحماية الحقوق. ومع ذلك فقد حرص الحاكم في مصر دائما على السيطرة على السلطة التشريعية واختراق السلطة القضائية، وكان وزير العدل، وهو جزء من السلطة التنفيذية، أداة الحاكم للتدخل في السلطة القضائية والسيطرة عليها، وليكن لنا في خبرتنا الحزينة مع محمد مرسي وإخوانه وإعلانه الدستوري ووزير عدله ونائبه العام الخصوصي وتأسيسيته وشورته وميليشياته عبرة. ولذلك، وحتى نضمن استقلال القضاء ومنعته، ولوقف تغول السلطة التنفيذية والتشريعية على السلطة القضائية، يجب ترسيخ مبدأ فصل السلطات بإعلان الاستقلال التام للقضاء على الوجه الآتي: إلغاء منصب وزبر العدل، واستبدال وزارة العدل بوزارة للشئون القانونية والأحوال المدنية تقتصر اختصاصاتها على الاتصال بمجلس القضاء الأعلى، والإشراف على هيئة قضايا الدولة باعتبارها محامي السلطة التنفيذية، وبجميع السجلات المدنية المسندة حاليا لوزارات العدل والداخلية والصحة؛ السجل المدني والشهر العقاري والمساحة والجوازان والجنسية والهجرة.
1.       نقل جميع الاختصاصات العدلية والقضائية وشئون المحاكم والهيئات القضائية وأجهزة الخبرة للمجلس الأعلى للقضاء برئاسة قاضي ينتخبه القضاة بإشراف المحكمة الدستورية العليا، دون أي تدخل من السلطة التنفيذية، يتولى بمجرد انتخابه رئاسة المجلس لفترة واحدة ست سنوات لا تجدد، ويقسم اليمين أمام رئيس المحكمة الدستورية العليا، ولا يكون لرئيس الجمهورية أو أي جهة تنفيذية أخرى أي دخل بإجراءات انتخابه أو توليه المنصب.
2.       ميكنة جميع الأعمال العدلية والقضائية وشئون المحاكم والهيئات القضائية لزيادة كفاءتها وتسهيل إدارتها وإضفاء الآدمية على جميع المشاركين فيها.
3.       فصل ميزانية القضاء عن جميع الأجهزة التنفيذية، مع إخضاعها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية التابعين للبرلمان باعتباره سلطة الرقابة.
4.       تكون موافقة المجلس الأعلى للقضاء على التشريعات والقوانين المتعلقة بإدارة شئون القضاء والعدل شرطا لسريان هذه التشريعات والقوانين. 
5.       يكون رئيس المجلس الأعلى للقضاء بحكم منصبه الرئيس التنفيذي المسئول عن تنفيذ السياسات التي يقرها المجلس الأعلى لإدارة شئون القضاء.
بعد أن ثبت بما لا يدع مجالا للشك ضلوع أفراد وهيئات من المجتمع المدني في تنفيذ المشروع الصهيوني الأمريكي "الشرق الأوسط الكبير"، وبعد أن شارك الإعلام المصري، والبرامج الحوارية على الفضائيات المصرية، وجمعيات المجتمع المدني - عن غفلة أو عمد -  الإعلام الغربي وأدواته الإقليمية والجواسيس والعملاء المدسوسين أدوارهم في زعزعة استقرار مصر وتنفيذ ما أسماه أوباما "الربيع العربي" الذي ما زال مستمرا، لم يعد مقبولا دعوة حتى من نشك في نواياه لبرامج مثل العاشرة مساء، والصورة الكاملة، وآخر كلام، إلخ، لإشاعة البلبلة وإضاعة وقت ثمين على الوطن بدعوى الموضوعية والمهنية والحياد والمسافات المتساوية بين أطراف الحوار.
وعلى السادة مقدمي البرامج ومعدوها أن يدركوا أنه ينبغي استخدام وقت برامجهم في المحافظة على ما تحقق في 30 يونيو من نصر لمصر على قوى خارجية وعملائها في الداخل، وأن يفهموا أن حقوق الإنسان ليست حكرا لمخالفي القانون ومثيري الشغب والداعين للفوضى، كما أن الموضوعية والمهنية والحياد والمسافات المتساوية بين أطراف الحوار لا تنطبق في المسائل المتعلقة بالمصلحة الوطنية العليا، أو عندما يتعلق الأمر بالعمل ضمن أجندات أجنبية لتقويض الوطن، فهذا يقع ضمن ما يجب وصفه بالترويج للخيانة والتخابر ويخضع للقانون ويستوجب قيام الدولة باتخاذ كل الإجراءات القانونية لتحقيق سلامة الوطن وتوجيه الاتهام بالخيانة لهؤلاء. فمثلا، لم يعد مقبولا، بعد أن اتضحت أبعاد المؤامرة التي تعرضت لها مصر، أن يروج لبرنامج حواري بعبارة: من مبارك إلى "العسكر" إلى الإخوان، خصوصا عندما يكون هؤلاء "العسكر" هم من حفظوا مصر من الانزلاق إلى الفوضى والضياع. كما لا يجوز أن يدعى إلى برنامج حواري بين رجال الدين الإسلامي والمسيحي ملتحي سلفي وكأن السلفية دين ثالث جديد.
علينا جميعا أن ندرك طبيعة ومدى الدور المنتظر من الإعلام الوطني المكتوب والمرئي لمواجهة الدور الذي يلعبه الإعلام الغربي الصهيوني الاستعماري الرسمي والخاص في خدمة الأهداف والمخططات الاستراتيجية لهذه القوى، وأن نعيد تنظيم إعلامنا ليتمكن من مواجهة المغالطات والتزييف والتشويه المتعمد الذي تمارسه بانتظام كجزء من دورها في تنفيذ مشروع تفتيت وإعادة ترتيب مصر والشرق الأوسط BBC و CNN و Washington Post و New York Times و Guardian، إلخ. من هنا تأتي الضرورة لإعادة تنظيم الإعلام وهيئات المجتمع المدني وإخضاعها للقانون لتحقيق الأمن الوطني والأمن القومي.
·         برنامج عاجل للتربية الوطنية وتنمية البشر وبناء القدرات
إلا أن كل ما سبق لا يمكن أن يجدي دون إعداد سليم للأجيال الجديدة وإزكاء "قيمة العمل" لديهم، وإعادة تأهيل من أسيء إعدادهم أو نالت منهم عدة عقود انقضت من عمر الوطن تعودوا خلالها على الأخذ دون عطاء، بعد أن أصابهم انفصام بين انتمائهم الوطني ومصالحهم الشخصية والفئوية. وقد كان الرئيس السيسي واضحا أشد الوضوح عندما كرر مطالبته للمواطنين بإنكار الذات ومشاركته العمل الشاق لإنقاذ الوطن من المأزق الاقتصادي والاجتماعي والمؤامرة الخارجية، إلا أن ما أصاب الشعور الوطني من تجريف خلال أربعين عاما وما لحق بالمجتمع، وخصوصا الشباب، من إيثار للذات وعدم انتماء وفوضى مستوردة من الخارج ضمن أجندة استعمارية وضعت في القرن الماضي وبدأ تنفيذها بالعراق في بداية القرن وأطلقت على الإقليم كله منذ أربع سنوات، تبلورت في فوضى مجتمعية وصراع محتدم على كل شيء أنتجته سلوكيات أنانية أصبحت مرضا مستعصيا على العلاج يهدد بشكل حقيقي بتخلف المصريين عن أداء جانبهم من مشارطة الرئيس لهم عندما قبل الترشح للرئاسة نزولا على المطالبة الشعبية، ويتطلب مواجهة من القيادة، ومن الجميع تأجيل المطالب الشخصية والفئوية في هذه المرحلة وبذل الجهد لتتخلص الدولة من أعباء سابقة حملتها للجيل القادم.
ولذلك، لم يعد هناك بد من وضع وتنفيذ خطة عاجلة لتنمية الشعور الوطني والقدرات الإنسانية وعلاج الأمراض الاجتماعية والتمزق المجتمعي الذي أنتجته مفاهيم مغلوطة لمعنى الثورة ونتائجها للوطن والمجتمع والمواطن من خلال برنامج تفصيلي جاد للتنمية المستدامة محاوره البشر والأمن الوطني، يؤدي إلى نمو اقتصادي وتحسن في الأحوال البشرية عموماً، ليحقق الفرد مستوى مرتفع من الإنتاج والدخل ويتمتع بحياة طويلة عالية الجودة، كما يوفر العدالة والإنصاف داخل الجيل الواحد وبين الأجيال المتعاقبة بتوفير فرص ملائمة للتعليم وبناء القدرات وزيادة الخبرات. ولا يسعني هنا إلا أن أتذكر النصف الثاني من الخمسينات والنصف الأول من الستينات من القرن الماضي حين كانت عقيدة العطاء سائدة وكانت مصلحة الوطن هي الأعلى وهي المقدمة على كل ما سواها. لقد حان وقت العودة إلى ما قد كان، إلى شعار "الاتحاد والنظام والعمل" العبقري لثورة 1952.

3.     تعديل دستوري فوري لتحقيق التوازن بين السلطات واستعادة الرئيس لسلطاته

أدى دستور 2014 الذي أنتجته، لمواءمات، لجنة الخمسين إلى تقليص معيب في سلطات الرئيس مخالف للنص الدستوري بفصل السلطات يؤدي إلى شل قدرة الرئيس على تحقيق برامجه التي وافق عليها الشعب وأدت إلى انتخابه للمنصب. وبينما كان المقصود هو منع إنتاج دكتاتور جديد، وهو الأمر الذي يرفضه كل المصريين، فقد أدى الدستور الجديد في نهاية الأمر إلى زيادة سلطات السلطة التشريعية "البرلمان،" ومن ثم الوزارة (أداة التنفيذ) التي تستمد وجودها من الوكيل (البرلمان)، على حساب الرئيس الذي انتخبه الأصيل (كل الشعب) كسلطة تنفيذية أصيلة، ليؤثر على قدرته على تنفيذ وعوده التي تم اختياره لها بالانتخاب الحر المباشر على أساسها وإدارة مصالح الأمة بأمانة في ظرف تاريخي حاسم يتطلب زيادة سلطات الرئيس، عوضا عن تقليصها أو تقييدها بشكل مخل بالمنطق الدستوري والقانوني. وقد كان من الطبيعي أن تفرض وصاية المجلس على الرئيس لو أن البرلمان، وليس الشعب، هو الذي انتخب الرئيس، أما وأن الشعب (الأصيل) هو الذي انتخب الرئيس مباشرة فلا يمكن أن يخضع الرئيس لسلطة البرلمان (الوكيل) الذي يجب أن يقتصر دوره على منح وسحب الثقة من الوزارة والوزراء. ولأن منع استبداد الرئيس لا يكون بمنازعته سلطاته أو شل حركته، ولكنه يكون بنص دستوري وقانون لمحاسبة الرئيس، وسن القوانين التي يعمل في إطارها.
ولذلك، فبينما كانت الوسيلة المثلى لمنع انفراد الرئيس بالسلطة أو إنتاج دكتاتور جديد هي تطبيق "نظام للضوابط والتوازنات" يحقق الفصل الكامل للسلطات، ويكبح تغول أي من سلطات الحكم الثلاث على سلطة أخرى، فيعطي التنفيذ للرئيس الذي انتخبه بالانتخاب المباشر كل الشعب، والتشريع والرقابة للبرلمان، والعدالة للسلطة القضائية، فقد أنتجت لجنة الخمسين بدلا من ذلك دستورا مشوها يؤدي إلى تغول السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، والسلطة التنفيذية على السلطة القضائية.
ومن ناحية أخرى، إذا كان تطبيق مبدأ النسبة والتناسب في أعداد المرشحين بالنسبة لتعداد المحافظات يؤدى إلى سلامة التمثيل السكاني للسلطة التشريعية، فإنه يؤدى في نفس الوقت إلى الإخلال بالتمثيل النوعي بحسب النص الدستوري، وبالتمثيل الجغرافي أيضا، ومن ثم أدى إلى اللجوء إلى زيادة عدد مجلس النواب والأخذ بنظام للحصص والقوائم يغفل الاعتبارات الجغرافية واللوجستية دون أن يحقق ذلك عدالة التمثيل، وإلى استمرار تغول المحافظات كثيفة السكان على حقوق المحافظات قليلة السكان خصوصا الحدودية في الجنوب وسيناء والغرب، والتأثير على معدلات تنميتها ويؤدى إلى تخلفها وفقرها وإلى شعورها بالظلم، ويؤثر على انتمائها الوطني ويهدد وحدة الوطن والأمن الوطني، وهو هدف استراتيجي للقوة الأعظم. وبنفس الطريقة تؤدي الانحيازات المجتمعية الموروثة، والفقر والأمية، والاندماج السكاني وعدم الفرز الديني إلى استبعاد الأقباط المسيحيين والمرأة من العملية الانتخابية ويؤدى إلى تهميشهما.
ولذلك لم ينجح التنظيم الحالي للسلطة التشريعية حتى الآن في تحقيق العدالة الجغرافية ومبدأ المواطنة وتساوي الحقوق ومنع التمييز بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو العقيدة، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة السلطة التشريعية وخلق "نظام للضوابط والتوازنات" ببرلمان من غرفتين يحقق ضمانات للتمثيل وعدالة للمهمشين، ويمنع انفراد غرفة واحدة بسلطة التشريع، وبالتالي يعطي حد أدنى من الضمانات بعدم تغول السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية لأسباب تتعلق بالقواعد الانتخابية السارية التي تنفرد بوضعها غرفة واحدة، كما يوفر من الضوابط والتوازنات ما يحقق حماية للرئيس من انفراد مجلس النواب بسلطة محاسبة الرئيس أو تعطيله. وبدون التساوي في اختصاصات وسلطات المجلسين، وهذه الفروق في تكوينهما لتحقيق التوازن بين المرأة والرجل، وبين الشباب والشيوخ، ولضمان تمثيل الأقلية الدينية والمناطق الحدودية، تستمر السلطة التشريعية في أدائها المنفلت والمتحيز وغير العادل. وهذا النظام هو نظام معمول به لأسباب مختلفة في عدد من الدول من بينها الولايات المتحدة الأمريكية.
من المؤكد أن يحقق برلمان من غرفتين العدالة للمسيحيين وللمرأة وللمناطق الحدودية، بالنص على تمثيل المسيحيين بخمس عدد أعضاء مجلس الشيوخ وتمثيل المرأة بنصف عدد الأعضاء وأن يحقق هذا المجلس أيضا عدالة التمثيل الجغرافي والنوعي بإعطاء كل المحافظات أوزانا متساوية بصرف النظر عن عدد السكان بكل محافظة، وتمثيل كل المحافظات بالتساوي بخمسة أعضاء من كل فئات المجتمع وأحزابه يتم اختيارهم بالانتخاب الحر المباشر بالنظام الفردي لكل محافظة، وأن يكون التمثيل الصحيح للمسيحيين وللمرأة شرطا لصحة الصوت. كما يجب خفض سن الترشح لمجلس النواب لإتاحة فرصة الترشح للشباب اللذين طال ظلمهم وتهميشهم في نظامنا النيابي في الماضي،
وحتى لا يكون المجلس الثاني تكرارا لتجربة مجلس الشورى المغرضة الفاشلة، يجب أن يكون هذا المجلس مجلسا للشيوخ له نفس اختصاصات وسلطات مجلس النواب، لا يقل عمر أعضائه عن 40 عاما مع تخفيض سن الترشح لمجلس النواب ليضمن لشباب الثورة تمثيلا أكبر يعكس دورهم في قيادة معركة تخليص الوطن من أنظمة فاسدة ومستبدة، وأيضا تقديرا للقدر من النضج والوعي الذي اكتسبوه في أربع سنوات. إلا أن عدالة التمثيل الجغرافي ستتطلب إعادة رسم خريطة الحكم المحلي لضمان تمثيل كاف وعادل لكافة مكونات المجتمع المصري المتنوع، خصوصا في المناطق الحدودية الجنوبية والشرقية والغربية التي تعرضت في الماضي للإقصاء والغبن، ومن ثم الإخلال بالحقوق بشكل أدى إلى الشعور بالظلم وأثر على الانتماء الوطني.

4.     تعظيم عائد الأحداث المهمة

يمكن أن يكون للأحداث المهمة مثل "مشروع المليون وحدة سكنية الإماراتي“ تأثيرا مضاعفا لما يمكن أن يبنى عليه من قيم مضافة إذا ما لم يقتصر على توفير السكن وحل أزمة الإسكان أو تنشيط الاقتصاد بصفة عامة، وامتد إلى تنمية البشر بتخصيص هذه الوحدات لشباب الحرفيين والمهنيين بشرط اجتيازهم لبرامج مشتركة لوزارات التنمية الإدارية والتعليم والصناعة والإسكان "لبناء القدرات" الحرفية والمهنية والإدارية، ثم مشاركتهم في عمليات الإدارة والتطوير والبناء الفعلية لوحدات يعرفون مسبقا أنهم بنوها بأنفسهم لأنفسهم، بعد أن أتموا تدريبهم. وبذلك يكون المشروع قد أدى دوره في تنشيط الاقتصاد وخلق فرص عمل وتشغيل وبناء قدرات لمليون شاب، وأضاف لهم قيمة وقيم، وحفزهم للعمل المنتج المنضبط عالي الجودة، وأنتج القدرات اللازمة لحسن إدارة وصيانة المستفيدين للمباني وللمواقع والمحافظة على رونقها ونظافتها، وأذكى الشعور بحقوق وواجبات المواطنة، وخلق الوعي المجتمعي بقيمة العمل والمحافظة على أصول البلد ونظافتها ورونقها وتحول إلى طريقة حياة.

5.     القضاء على الطابور الخامس وتوجيه طاقات المجتمع للعمل والبناء بدلا من الهدم

أصبح الدور الأمريكي الصهيوني المحوري في إشاعة الفوضى في مصر أمرا مسلما به قامت إدارة أوباما بتنفيذه، بعد أن كان مجرد إعلان للنوايا أطلقه جورج بوش ووزيرة خارجيته في ٢٠٠٣ وأكداه في ٢٠٠٤ و٢٠٠٦. وقد علمنا التاريخ أن تفرق المصريين أو الخيانة من الداخل كانا دائما وراء اختراق القوى الخارجية للسيادة المصرية، ولذلك فقد كان أخطر ما أنتجته ثورة يناير الحصانة التي اكتسبها الثوار الحقيقيون، ولكن اكتسبها بالتبعية دخلاء على الثورة، من عملاء لقوى خارجية مدسوسين في الخفاء أو حتى انتهازيين سعوا لاختطافها أو ركوب موجتها، دفعوا مصر، وما زالوا يدفعونها بلا هوادة، إلى حالة من السيولة وعدم الاستقرار دون إمكان لردعهم أو حتى سؤالهم باعتبارهم ثوارا فوق النقاش أو الحساب.
من الواضح أن استمرار مظاهر العنف في الجامعات وقطع الطريق العام هو انعكاس للإرادة الأمريكية الاستعمارية ونتاج للسياسة المتخاذلة للحكومة السابقة التي أمعنت في مهادنة معتصمي الجماعة المسلحين في تقاطع رابعة وميدان النهضة، ثم لإهمال وزير التعليم العالي لواجباته وإصراره غير المسئول - بخلاف كل الدنيا التي تعرف بوليس الجامعة campus police - على إلغاء الحرس الجامعي حتى اقتنع الإرهابيون بغياب الدولة وبقدرتهم على خلق تيار مدفوع بين الطلبة يمارس الإرهاب بلا رادع أو حتى إجراءات تأديبية كالفصل من التعليم الجامعي "المجاني" أو الطرد من المدن الجامعية "المدعومة" أو إلغاء "ميزة تأجيل التجنيد" للطلبة من مثيري الشغب ومرتكبي العنف ومخالفي القوانين السارية.
بل أن تخاذل الوزارة السابقة، الذي ما زال مستمرا حتى الآن بعد تولي الوزارة الجديدة، ومازالت توفر لهم السكن والطعام والملاذ ومراكز التخطيط والقيادة ومخازن الأسلحة والقنابل الحارقة ليستمروا في إرهابهم دون رادع، حتى ظهر للعالم أن في مصر قوتان متكافئتان، وأننا في حالة "باطا." لم يعد مقبولا أن تستمر الدولة في دعم الإرهابيين من أموال المصريين ليحرقوا الجامعات والممتلكات العامة والخاصة وليقتلوا الأبناء من أبطال الشرطة والجيش. بل أن الوقت قد حان لطردهم من الجامعات وإلغاء تأجيل تجنيدهم، بدلا من تركهم في الشوارع، والدفع بهم لتأدية الواجب الوطني كمجندين في مواقع العمل في أماكن نائية تحتاج لعمل وعرق كثير، مثل "توشكى" المهملة التي ضاعت فيها الأموال وأصبحت تمثل موقعا مثاليا لإعادة تأهيل من ضلوا الطريق وخانوا الوطن، ليتحولوا إلى أدوات للبناء بدلا من معاول للهدم وقنابل للحرق وأسلحة للقتل.
يجب أن نفهم ونتذكر أن الدعم "الإيجابي والسلبي" للقوى الخارجية وعملائهم بالداخل للإسلام السياسي ماديا وإعلاميا واستخباراتيا، وتصويت الإخوان والسلفيين في كتلة مركزة الذي ينتظر أن يتكرر في الانتخابات البرلمانية القادمة، هو ما أدى إلى خسارة التيار الوطني في الانتخابات وسيطرة الإسلام السياسي على البرلمان في الماضي القريب. ولذلك يجب الالتزام بالنص الدستوري بمنع الترشح للنيابة بمختلف مستوياتها للمنتمين لجماعات أو أحزاب ذات مرجعية دينية دون استثناء لإخواني أو سلفي أو قبطي أو إنجيلي، كما يلزم اتخاذ التيار الوطني لخطوات فعالة لتركيز التصويت لمرشحي التيار الوطني وقصر ترشيحات التيار الوطني على مرشح واحد لكل مقعد يسانده كل الشعب بصرف النظر عن انتمائه الحزبي. لذلك، لم يعد مقبولا دعوة أي ممن يمارسون بفجور ووقاحة في حصانة تامة العمالة للقوة الأعظم التي لا ترى مصر كدولة ولكن كجزء محوري من منطقة نفوذ، أو حتى من نشك في نواياه في البرامج الحوارية، لإشاعة البلبلة وإضاعة وقت ثمين على الوطن.
نخطئ خطأ قاتلا لو لم ننشغل الآن بالطابور الخامس من "النشطاء" الذين تم تدريبهم وزرعهم لمقاومة توحدنا ومنع استقرارنا وتشتيت جهودنا وشغلنا في فورات مفتعلة كلما بدا أن الأمور تتجه إلى الاستقرار، أو في مبارزات كلامية وسفسطة غير مجدية، بل مضرة، على غرار ما حدث على الفضائيات في أعقاب فبراير 2011، واستخدام بعض مقدمي البرامج والمتحاورين المشبوهين للغة غير منضبطة لزيادة الارتباك والتشتت. من المنتظر أن ينشط الطابور الخامس مرة أخرى بعنف مباشر يبدأه إخوان الجامعات، أو بطرح قضايا خلافية محاورها "العسكر" وأهداف "ثورة 25 يناير" ومكاسب "الشباب" والمصالحة "الوطنية" ونظام الانتخابات "الفردي والقائمة"، إلخ، لشق الصف الوطني وتشتيت الانتباه وتغيير اتجاه المصريين وإضاعة وقتهم وإعاقة الخطوة الأخيرة في "خارطة المستقبل" وتحقيق انتكاسة قاتلة لثورة 30 يونيو، بتولية برلمان تكون مهمته الوحيدة تعويق وإفشال الرئيس السيسي "دستوريا".

6.     المشروعات الوطنية الكبرى وطريق العودة إلى أفريقيا

لا يختلف أحد على أهمية وفعالية مشروع محور قناة السويس لتحقيق تنمية ونهضة مصر على غرار ما مثله مشروع تنمية وتطوير الخليج لدولة الإمارات العربية المتحدة، ومع ذلك تبقى نتائج المشروع رهنا بالالتزام بكل مقتضيات الأمن الوطني، وبنموذج وخطة العمل business model & business plan المناسبين، وباختيار الإدارة التنفيذية القادرة، وباستخدام النظم والآليات المناسبة للتنفيذ وجدولته، وبتحفيز العاملين ودعوة المجتمع للمشاركة في تمويله. ولعل مشروع السد العالي يعطينا مثالا جيدا للممكن في مصر.
إلا أن مشروع توشكى الذي تبناه الدكتور كمال الجنزوري رئيس مجلس الوزراء الأسبق باعتباره مشروعا "لحضارة مصرية جديدة"، وعارضه الراحل الدكتور رشدي سعيد وغيره من العلماء والخبراء، والذي تم تنفيذه بدون دراسات كافية واستنزفت فيه أكثر من 10 مليارات من موارد الدولة، والذي يدفعون الدولة دفعا الآن لإحيائه بعد موته وينادون بضخ أموال جديدة جيدة فيه بعد أن ضاعت الاستثمارات فعلا وتخردت معداته وتشققت قنواته التي يعمل قطاعاتها الواسعة الضحلة على زيادة البخر، بدلا من دراسة نقل جزء من مضخاته للشمال لتوفير المياه اللازمة لاستكمال ري أراضي الساحل الشمالي الغربي، واقتصار هذا المشروع على ما تثبت صلاحيته جيولوجيا وبيئيا واقتصاديا للاستصلاح والاستزراع.
كما أن مشروع "ممر التنمية" الذي يتبناه الدكتور فاروق الباز وواجه معارضة من الوزراء المسئولين عن التعمير وانتقادات موضوعية من علميين ومتخصصين وعلماء أبرزهم عالم الجيولوجيا المصري الراحل الشهير الدكتور رشدي سعيد، والرئيس السابق للمعهد الوطني لدراسات الصحراء الدكتور سامر المفتي، وأستاذ الهيدرولوجيا والرئيس السابق لجامعة المنوفية الدكتور مغاوري دياب، الذين رأوا أن المشروع لا يستند إلى دراسات مقنعة وأن خريطة الموارد الطبيعية بما فيها المياه الجوفية لا تبرر الاستثمار الهائل في المشروع - 24 بليون دولار أمريكي (>170 مليار جنيها مصريا) - والذي ينتظر تجاوزه كالعادة. وقد طرح المهندس الاستشاري الدكتور ممدوح حمزة عددا من التساؤلات عن البيانات التي تستند إليها دراسة الجدوى والتي توحي باتفاقه مع الرافضين للمشروع.
ولعل الاعتبار الأهم والأخطر كان تناولنا لهذه المشروع العملاق عالي التكلفة - على غرار مشروع توشكى - خارج إطار الأهداف الاقتصادية لخطة تكاملية قابلة للتنفيذ لنهضة مصر طبقا لبرنامج ذو أهداف محددة ومجدولة وإطار زمني محدد، تأخذ في الاعتبار مقتضيات الأمن الوطني والأولويات الوطنية والأبعاد الإقليمية الأفريقية والعربية، وترتكز على دراسة مقارنة لتكلفة وعائد وصافي القيمة الحالية للفرص المتاحة للمشروعات الوطنية الكبرى ماليا وبيئيا، وتلتزم بصرامة بمقتضيات الأمن الوطني، وتحقق استثمار وتنمية المزايا النسبية والتنافسية للاقتصاد المصري في السوق العالمي، وتتناسب مع موارد الدولة وقدرتها على مجابهة التزاماتها وتحقيق فائض نقدي من تدفقاتها النقدية دون تأثير مضر باحتياطياتها على غرار توشكى التي أضاعت الوقت والجهد واستنزفت الاحتياطي النقدي الوطني دون مردود ودون محاسبة، وتقارب التنمية على أربع محاور أساسية هي البشر والمياه والقيمة المضافة والتكامل الإقليمي الأفريقي والعربي. فإذا كان من الضروري لاتخاذ قرار بتنفيذ مشروع صغير إجراء دراسة مقارنة لتكلفة وعائد وصافي القيمة الحالية للفرص الأخرى المتاحة للاستثمار، فلا يجوز أصلا التعرض لاتخاذ قرار في مشروع وطني عملاق بمعزل عن المشروعات الوطنية الكبرى الأخرى والفرص البديلة، خصوصا التي تتطلبها مقتضيات الأمن الوطني، مثل:
·         تعمير البحر الأحمر وسيناء، التي أوقف بقدرة قادر مشروع تعميرها بعد أن بدأ وتم الجزء الأكبر من بنيته التحتية بالرغم من تحقيقه لزيادة الحصيلة المائية الوطنية باستكمال الري بمياه الأمطار المتساقطة سنويا فيها، ولاستخراج الثروات المعدنية التي طال إهمالها، ولتغيير الأوضاع السكانية وملأ الفراغ لانعكاساته الأمنية الكبرى على الحدود الشرقية المهددة والغربية التي أصبحت مهددة.
·         العودة إلى أفريقيا بعد أن تراجع الاهتمام بالمصالح المشتركة مع الدول الإفريقية، بما في ذلك المصالح الحيوية مع دول حوض النيل، بحيث لا يجد الأخوة الأفارقة في دول المنابع، الذين فطنوا أخيرا إلى قيمة المياه لمشروعهم التنموي، أثرا لمصالح مشتركة مع مصر أو حتى دورا لها في حياتهم إلا بعض شعارات عن الاستعمار غير مجدية وغير مستدامة للرئيس عبد الناصر في زمن مضى وولى قد لا تدركه ذاكرة هذا الجيل أصلا.
ولأن المشكلة المائية ليست ككل المشاكل لبلد صحراوي هو الأكثر قسوة وقحولة وهشاشة في العالم، فقد حان وقت العودة إلى أفريقيا بكل التواضع والاندفاع لتحقيق المصالح المشتركة، ولكن ليس بشركة "نصر" جديدة، وإنما بمشروعات تنموية عملاقة للمياه والطرق والنقل والاتصالات والكهرباء والزراعة والصناعة تحقق التكامل القاري وتؤدي إلى انطلاقها وزيادة تجارتها البينية وتنميتها وترفع جودة الحياة لكل أبنائها، يكون بينها مشاركة مصر في مشروع سد النهضة الإثيوبي استثماريا في البناء وتجاريا بشراء أكبر حصة من الطاقة الناتجة لاستيفاء العجز القائم في احتياجات الطاقة الكهربائية وهو ما يضمن استمرار تدفق المياه شمالا، كما يكون للأشقاء في الخليج دورا فيها ينتهي إلى تحالف أفريقي عربي مبني على وحدة المصالح العربية الأفريقية، يحرك الحد القاري الافتراضي لأفريقيا من البحر الأحمر إلى الخليج العربي، ويخلص مصر من حالة الانفصام المزمنة بين عربي وأفريقي.
وإذا كان نصيب الزراعة من المياه يفوق 87% من استخدامات الموارد المائية العذبة لمصر التي لم يتغير أسلوب إدارتها لمئات السنين بحيث يضيع الجزء الأكبر منها هدرا في الري بالغمر وتتطلب المياه الزائدة إنشاء وصيانة شبكات للصرف الزراعي لمنع ارتفاع مستوى الماء الأرضي وانخفاض إنتاجية الأراضي المزروعة، وبعد أن أصابت مشكلة التضخم السكاني مصر بالفقر المائي للمرة الأولى في التاريخ وانخفض نصيب الفرد انخفاضا كارثيا من ~4000 م3/سنة في 1950 إلى ~600 م3/سنة في 2011، وفي ضوء ضغوط دول حوض النيل - وبخاصة إثيوبيا وهي مصدر أكثر من 85% من المياه التي تصل مصر - فقد أصبح لتحديث طرق الري وإنشاء البنية التحتية والطاقة الكهربائية اللازمة لتشغيلها واستعادة سيطرة وزارة الري على النهر والمجاري المائية أولوية قصوى، وهو يبطل الادعاء الإثيوبي بزيادة ما يصل مصر من مياه عن احتياجاتها المائية الحقيقية وتحججها بانخفاض كفاءة استخدام المياه، ويعتبر أحد أهم وأضخم المشروعات القومية الكبرى وأكثرها تكلفة التي يستحيل تأجيلها إزاء احتمالات حجز إثيوبيا لجزء من المياه ولمجابهة احتياجات الأراضي الجديدة من مشروعات استصلاح واستزراع 4 ملايين فدان جديدة، التي يجب تجهيزها من البداية بشبكات حديثة للري تحقق أعلى كفاءة لاستخدام المياه.
وكما تمثل المياه مسألة مصير لبلد مثل مصر، تمثل الطاقة الشمسية له أهم المصادر الطبيعية للطاقة النظيفة "المجانية منعدمة التكلفة البيئية،" باعتبار مصر النقطة التي تتمتع بأكبر سطوع وكثافة ونقاء للطاقة الشمسية على وجه الأرض، ومن هنا أصبحت الأكثر قسوة وقحولة وهشاشة في العالم. ولذلك يكون من الذكاء والمنطق أن تتوجه مصر بكل قدراتها إلى استغلال الطاقة الشمسية لإنتاج الطاقة الكهربائية والحرارية المنزلية، وفي غياب أهداف لتطوير قدرات نووية عسكرية، استبعاد الطاقة النووية لأسباب متعددة، أهمها مشكلة التخلص من النفايات المشعة، والتاريخ الجيولوجي لحوض البحر الأبيض المتوسط النشط زلزاليا، والذي سبق في زمن سابق أن ضرب الساحل الشمالي بتسونامي ما زالت آثاره في قاع البحر في الإسكندرية وأبو قير، والذي لا بمكن التنبؤ بوقت تكراره، وهو ما دفع الأمم المتحدة لتجربة نظام للتنبؤ بالتسونامي لحوضي البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود.
ولعل "الطريق الأفريقي الأول" بين الإسكندرية ومدينة الكاب Cape Town بجنوب أفريقيا الذي يمثل جزءا محوريا من شبكة طرق ضرورية لربط وتنمية القارة - على غرار مشروعات شبكة الطرق الألمانية Autobahn والأمريكية Freeways التي تأسست عليها نهضة البلدين خلال الكساد الكبير  Great Depressionلتوفر فرص عمل ضرورية لعبور الأزمة الاقتصادية الكبرى وتحفيز النمو بتسهيل الأنشطة التجارية والإنتاجية، والتي تحولا بإنجازها إلى قوى عظمى - هو المشروع الذي لا يمكن أن يختلف عليه أحد، والذي يعيد مصر إلى قارتها أفريقيا من أقصر الطرق ولا يعتمد على وفرة الموارد الطبيعية بما فيها المياه الجوفية ولكنه، وهو جدير بأن يتبناه الاتحاد الأفريقي - ضمن شبكة الطرق القارية - لتحقيقه للتكامل الأفريقي والمصالح المشتركة والتنمية معا، قابل للتمويل الدولي الميسر. أما من وجهة النظر المصرية الوطنية، فإن هذا المشروع الذي يحقق الربط القاري ويسهل التجارة البينية بين دول القارة، وأقترح تسميته “Nasser-Mandela Transcontinental Freeway” يحقق أيضا اتصالا معنويا وفعليا مع القارة كان قد فقد، ويعيد إلى الذاكرة الأفريقية دورا محوريا لعبه الزعيم المصري الأفريقي الراحل جمال عبد الناصر في تحرير القارة ويبرز وحدة الدور الكفاحي الذي لعبه الزعيمان مانديلا وناصر ويؤكد، بعكس الدعاية الاستعمارية المضادة، وحدة القارة وانتماء مصر الأفريقي.
دكتور مدحت بكري
مستشار إدارة التغيير بالأمم المتحدة سابقا
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق