عندما ذهب البطريرك الراعي إلى باريس كان مضيفوه مطمئنون إلى أن مشروعهم لإعادة ترتيب المنطقة الذي أعدته سلفا الحركة الصهيونية العالمية وقدمه الزعيم الصهيوني المعاصر برنارد لويس Lewis Bernard للكونجرس الأمريكي في ثمانينات القرن الماضي، وطوره Richard Perle ومجموعة المستشارين الصهاينة الأمريكيين في تسعينات القرن الماضي، وتبنته الإدارة الأمريكية السابقة كمشروع ينهي الصراع ويحقق "نهائية" إسرائيل، والذي أعلنه الرئيس الأمريكي جورج بوش أمام ”National Endowment for Democracy-NED“ في نوفمبر 2003، ثم أكده في يونيو 2004 أمام قمة مجموعة الثمانية بجورجيا كمبادرة الشرق الأوسط الكبير "Greater Middle East Initiative-GMEI" يسير في الاتجاه الصحيح ويحقق تقدما مطردا ويوشك أن ينهي إلى الأبد مشكلة الشرق الأوسط المزمنة التي أرهقتهم ويحول إسرائيل إلى مركز دائم للسيطرة يضمن لهم استغلال ثروات منطقة نفوذهم.
وكانوا ينتظرون أن يستمعوا من بطريرك أنطاكية وسائر المشرق - باعتباره راعيا للطائفة المارونية التي عانت لسنوات طويلة من توترات طائفية - إلى مطالب مسيحية تتضمن الأراضي ومصادر المياه والثروات الطبيعية وحقول الغاز البحرية التي يطلبها للدويلة المسيحية الجديدة المنتظر ولادتها في إطار المخطط. ولم لا، أليس هذا هو نموذج الدولة الدينية الذي يتفق عليه ويسعى إلى تطبيقه الصهاينة والمتطرفين الإسلاميين؛ سنة وشيعة؟ أليست هذه فرصة كبرى في هذا الزمن الردئ لاقتناص الفرص وتحقيق المكاسب وزيادة الرقعة وتأمين الموارد للطائفة؟!
إلا أن الرجل الكبير - الذي فهم واستوعب ما أعلنه الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته عن إطلاق "مشروع الشرق الأوسط الكبير الجديد وآلية الفوضى الخلاقة" - فاجأ مضيفيه كما فاجأ الجميع؛ لقد رفض مشروع الدويلات الدينية الذي يضعف الجميع، ووجه تحذيرا واضحا لمضيفيه بأنه أول من يرفض هذا المصير للمنطقة التي تعرف الطريق إلى العيش المشترك، ورفض أن يعلق موقفه المبدئي على مسألة استمرار أو سقوط نظام أو دكتاتور هنا أو هناك بينما يعلم يقينا أنهم يقودون المنطقة إلى استئثار طائفي ينتج صراعا طائفيا يتبعه تقسيم جديد بين الطوائف ودويلات دينية.
ولم يصدق المضيف ما سمع من رجل وطني عظيم يحب كل أهل بلده ويؤمن بوحدة النسيج الوطني وخصوصية علاقة الإنسان بربه، فأرسل سفيره يطلب توضيحا، وربما تراجعا!
دكتور مدحت بكري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق